الكيماوي التركي في شمال سوريا.. فريق التحقيق الدولي يمتنع عن فحص الحالات

رفض فريق من المحققين الدوليين فحص عينات الأنسجة المأخوذة من الإصابات في صفوف المدنيين الذين يُشتبه في إحراقهم بواسطة الفسفور الأبيض أثناء الهجوم التركي على شمال سوريا، بحجة أن الحالات تقع خارج اختصاصهم.

يوقف هذا القرار الجهود للتحقق مما إذا كانت الأسلحة الحارقة قد استخدمت في شمال سوريا خلال عمليات تركيا في المنطقة أم لا، ويعني أن عينات الأنسجة الحساسة للوقت المأخوذة من ضحايا الحروق ستترك لتتحلل في وحدة تبريد بالعراق.

ويأتي ذلك وسط التسييس المتزايد لقضية أصبحت الآن مصدر إحراج لحلف الناتو، الذي تبدو دوله الأعضاء مترددة في التحقيق في جرائم الحرب المحتملة التي ارتكبتها تركيا أو الموالين لها في سوريا.

دلائل تورط تركيا

نشرت صحيفة “ذا تايمز” البريطانية وثائق جديدة كدليل آخر على استخدام القوات التركية لغاز الفسفور الأبيض المحرم دوليا ضد الأكراد في سوريا.

وكشفت الصحيفة أن الوزراء في المملكة المتحدة أصدروا أكثر من 70 ترخيص تصدير للمنتجات العسكرية التي يمكن أن تحتوي على الفسفور إلى أنقرة خلال العقدين الماضيين، وفقا للوثائق التي حصلت عليها الصحيفة البريطانية.

وقال خبير بريطاني بارز في مجال المواد الكيميائية الليلة الماضية إن العينات التي تم جمعها من مكان وقوع هجمات كيماوية مشتبه بها ومن حروق الضحايا ، يمكن تحليلها لتحديد بلد المنشأ لأي الفسفور الأبيض الموجود.

وفتحت الصحيفة البريطانية تحقيقاً موسعاً يسلط الضوء على المزيد من الأدلة التي تدين النظام التركي، وتثبت استخدام قواته قنابل فوسفور حارقة محظورة دولياً، وتم تدعيم التحقيق بشهادات من الضحايا وذويهم في مواقع القصف، إضافة إلى آراء الخبراء ونتائج التحاليل للعينات، بما يحتم تحركاً دولياً لمحاكمة المسؤول عن ارتكاب الجريمة البشعة والمأساة الإنسانية هناك.

وكتب أنتوني لويد، مراسل “تايمز” في الحسكة، نقلاً عن علي شير، شاب كردي سوري يناهز 21 عاماً، مصاب بحروق رهيبة بظهره وخصره، ويعتصره الألم – على الرغم من حقنه بالمورفين – مع كل نفس وحركة، علاوة على إصابات وكسور في كتفه وما تبقى من ذراعه اليمنى، قوله: “أتمنى أن تتمكن من منع الحيوانات، التي أحرقتني من أن تكرر الجريمة مع الآخرين، بدلاً من مجرد التقاط صورتي”.

وأشار لويد إلى أن رائحة كيمياوية غريبة كانت مازالت تفوح من الجراح العميقة في الجسم المهترئ للمقاتل علي شير، بينما يجلس على سرير المستشفى.

في العاشر من أكتوبر، وجد شير وزملاؤه الأكراد أنفسهم يواجهون هجوماً حاشداً من السوريين المدعومين من تركيا، على حدود مدينة رأس العين.

وأصيب شير خلال قصف بغارة جوية تركية، أدى إلى تمزيق ذراعه اليمنى وكسور بالكتف، بينما احترق ظهره وخصره بمادة غير معروفة؛ فيما يعد دليلاً على استخدام تركيا مادة الفوسفور الأبيض اللعينة في عمليات قصف الأكراد السوريين.

وصرح الطبيب عباس منصور، 69 عاماً، الذي قام بعلاج حالة شير وغيره من ضحايا الحروق في مستشفى الحسكة، لـ”تايمز” قائلاً: “لقد رأيت العديد من الإصابات الناجمة عن الغارات الجوية. ولدي سابق خبرة بطبيعة وشكل الجروح الناتجة عن الحروق والانفجارات، التي تصيب الأشخاص عادة بسبب الغارات الجوية، إلا أن هذه الحالات مختلفة. إن الحروق العميقة وأشكالها والرائحة المنبعثة منها تتوافق تماماً مع الإصابات التي تحدثها الأسلحة الكيمياوية الحارقة”.

ومن بين العشرات من الجرحى الذين نقلوا إلى المستشفى منذ بدء الهجوم التركي على شمال سوريا مؤخراً، حدد دكتور منصور أن ما بين 15 و20 شخصاً، من المقاتلين والمدنيين والأطفال، لحقت بهم إصابات باستخدام ما يرجح أنه مادة الوفسفور الأبيض، قائلاً: “إن أنواع الحروق التي أراها هنا مختلفة تماماً عن تلك التي أتوقع أن يكون سببها أي شيء آخر غير مادة كيمياوية حارقة مثل الفوسفور الأبيض”.

وأعلنت الأمم المتحدة، في خضم توالي ظهور مجموعة متزايدة من الأدلة التي تشير إلى أن تركيا تستخدم بالفعل الفوسفور الأبيض لتمهيد الطريق لغزوها لشمال سوريا، عن بدء تحقيقات من جانب خبراء الأسلحة الكيمياوية التابعة لها.

فبعد صدور تأكيدات من كل من الهلال الأحمر الكردي ووزارة الصحة الكردية السورية بعلاج إصابات بحروق غير عادية جراء القصف الجوي والمدفعي التركي. دفع فحص جروح العديد من الضحايا، الذين تم إجلاؤهم إلى شمال العراق، منظمة الأمم المتحدة لحظر الأسلحة الكيمياوية OPCW إلى إصدار بيان الجمعة الماضي بأنها “تتابع الوضع وتقوم بجمع المعلومات، فيما يتعلق بالاستخدام المحتمل للأسلحة الكيمياوية”.

ومن جهة أخرى، أنكرت تركيا أن جيشها يمتلك أي أسلحة كيمياوية محظورة، وربما قد يكون ذلك صحيحاً فيما يتعلق بأنه لا يوجد بالفعل حظر على مادة الفوسفور الأبيض في حد ذاتها، حيث إنها المكون الكيمياوي الأساسي للدخان والإضاءة والقذائف الحارقة، التي تستخدمها معظم جيوش حلف شمال الأطلسي “ناتو”.

ولكن بموجب اتفاقيات جنيف والأسلحة الكيمياوية، يوجد حظر على استخدامات مادة الفسفور الأبيض وقيود تنظمها مجموعة معقدة من الرموز والتي تسمح فقط باستخدام الفوسفور الأبيض في القنابل اليدوية والذخائر الجوية وقذائف المدفعية لأغراض عسكرية متعددة، ولكن تحظر استخدامه في عمليات تؤدي إلى إلحاق حروق مباشرة ضد البشر.

وأكد دكتور منصور أن غالبية ضحايا الفوسفور الأبيض، الذين تلقوا العلاج في مستشفى الحسكة، تعرضوا للإصابات والحروق خلال الغارات الجوية التركية على بلدتي رأس العين وعين عيسى.

كما أعطى 4 شهود عيان، من بينهم 3 من مقاتلي قوات سوريا الديمقراطية وآخر مدني، شهادات منفصلة ومفصلة لـ”التايمز” عن الحروق الجسدية الغائرة التي لحقت بالمصابين، موضحين أن استخدام المياه لا يفلح في إطفائها، وأنها تستمر لفترة طويلة بعد انفجار القذائف، حيث أوضح والد الصبي محمد حميد محمد، 13 عاماً، والذي تم تسليط الضوء على إصاباته المروعة الأسبوع الماضي، أن جهود إطفاء النيران المشتعلة في جسم ابنه استغرقت جهوداً مضنية ووقتاً طويلاً.

ومن جانبه قال أردار الحسيني، أحد مقاتلي قوات سوريا الديمقراطية: “لم أستطع إخماد الحرق. مهما فعلت فلن يتوقف عن الاحتراق في جسدي”.

وأضاف الحسيني أن النيران اشتعلت أيضا في أجسام 3 من رفاقه واستمروا “في الاحتراق حتى أصبحوا جثثا متفحمة”.

ورجح هاميش دي بريتون جوردون، قائد سابق للفوج الكيمياوي والبيولوجي والإشعاعي والنووي البريطاني، أن الجروح التي أصيب بها الصبي محمد حامد محمد في رأس العين “بدت وكأنها ناتجة عن الفوسفور الأبيض”.

وقال جوردون إن “الفسفور الأبيض سلاح رهيب، إنه يتفاعل مع الرطوبة في الجلد بطريقة تزيد من احتراقه، بحيث لا يمكن إخماده بالمياه”.

كما علمت “تايمز” من مصادرها أن محققين متخصصين بدأوا في العمل بمنطقة الهجوم لجمع عينات الدم والأنسجة من ضحايا الغارات الجوية التركية، وقاموا بالفعل بتسليم بعض العينات إلى خبراء الأسلحة الكيمياوية الدوليين لفحصها، حيث أشارت النتائج الأولية للتحاليل إلى أن السبب في الحروق هو مادة الفوسفور الأبيض.

وفي عنابر مستشفى الحسكة، وبعيداً عن النتائج المحتملة لتحقيقات الأمم المتحدة، تدور أحداث فصول أخرى من التراجيديا الإنسانية، حيث يغطي الغبار الجدران فيما يفتقر المستشفى بشدة إلى “المعدات الطبية وأطقم تمريض مدربة، حيث إن الممرضات الحاليات هن مجرد متطوعات حصلن على التدريب لمدة أسبوع واحد فقط”.

ولا تقتصر الخطورة على حياة ضحايا الفوسفور الأبيض بل تمتد إلى باقي المصابين بجراح طفيفة، حيث لا توجد أغطية أسرة احتياطية ولا أدوات نظافة وتعقيم كافية، مما يعرض الجميع لخطر الإصابة ببكتيريا المكورات العنقودية الذهبية المقاومة للميثيسيلين.