العاصوف.. وماذا بعد؟

كثر الحديث عن مسلسل العاصوف، وتكاد تنحصر كل النقود التي وجهت له إلى المبالغة في تصوير انفتاح المجتمع الذي بدأ في منتصف الثمانينات الهجرية واستمر حتى نهاية القرن الرابع عشر، وأنا مع من يرى وجود المبالغة، لكني لا أراها مشكلة إطلاقا؛ لأن من طبيعة الأعمال الدرامية المبالغة وتضخيم الأحداث، لذلك سأتناول المسلسل من زاوية أخرى.

القصة بدأت عام 2011م حين أسرَّ الوابلي -رحمه الله- إلى صديقه ناصر القصبي بفكرة المسلسل الذي كان قد شرع في كتابة سيناريوه، وقرر القصبي بعدها أن يفض الشراكة مع رفيق دربه السدحان ويطلق الوطن طلاقًا بائنا، ويستقر مع أسرته في مدينة دبي.

كان القصبي يسمع من المقربين حوله كلمات الإعجاب والإطراء بموهبته، وأنه هو نجم طاش الأوحد الذي بفضله حقق المسلسل هذه الشهرة والجماهيرية.

وفي الوقت نفسه كان يسمع منهم عبارات التقليل من موهبة السدحان وأنه عبء على المسلسل، ومن الظلم أن يقف مع ناصر على قدم المساواة ويشاركه في بطولة العمل، والحقيقة أنه لا القصبي ولا السدحان يملكان الموهبة الحقيقة، وغاية ما يملكانه -وهو ما نجحا فيه فعلًا- التقليد وتقمص الشخصيات أو الكاركترات.

فكما أبدع السدحان في تقمص الشايب أو العود في شخصية أبي مساعد والجشع في شخصية أبي زنيفر أبدع القصبي في تجسيد شخصية الحجازي الساذج والسوداني والشايب الزبيري (أو الزبيراوي).

لكنَّ هذه الموهبة الزائفة سرعان ما تنكشف حين يظهران في بعض الحلقات بشخصياتهم الحقيقية، فهي المحك والمعيار الحقيقي لتقييم الموهبة الفنية.

ومن يتأمل الآن في أداء القصبي في مسلسل العاصوف يدرك هذه الحقيقة، فقد فشل في نظر الكثيرين في تجسيد شخصية خالد التي يؤديها بشخصيته الحقيقية، وتفوق عليه بشكل لافت ممثلون آخرون، كالسكيرين وريم عبدالله.

المهم أن القصبي تحت تأثير هذه التخديرات المضللة من جهة، وبعد أن ظفر بوعد الوابلي بالعاصوف الذي رأى فيه مقومات النجاح؛ لكونه يملك مخزونًا هائلًا من الإثارة المتمثلة في استفزاز المجتمع بمهاجمة التيار الديني.

وقد كان لمس هذا النجاح في ردود الأفعال تجاه بعض حلقات طاش التي كانت تنهج هذا النهج، وأمام هذا الكنز من الإثارة عزَّ على القصبي أن يشاركه فيه أحد حتى لو كان رفيق دربه، فاتخذ قراره بالهجرة إلى دبي واتخاذها منطلقًا لأعماله الفنية الجديدة التي ينفرد فيها بالبطولة.

وكان للقصبي ما أراد، فضَّ شراكته مع السدحان، وحمل أمتعته إلى دبي، وبدأ حياته الفنية الجديدة بلا سدحان، كان القصبي ينتظر بفارغ الصبر انتهاء الوابلي من كتابة سيناريو العاصوف.

وخلال ذلك أنتج عددًا من الأعمال بدأها بمسلسل (أبو الملايين) الذي حاول فيها الخروج من عباءة طاش، غير أن المسلسل فشل فشلًا ذريعا سواء في نظر النقاد أو الجمهور لذلك السبب نفسه، وهنا لم يجد القصبي أمامه سوى العودة إلى الميدان الذي نجح فيه.

فعاد بطاش جديد لا يختلف عن طاش الرياض إلا في اسمه (سيلفي) وفي أمر آخر -وهو المهم عند ناصر- أنه بلا سدحان، وهذا يعني أنه سيكون البطل الأوحد دون منافس.

وسيظهر اسمه وصورته في تتر المسلسل بطلا ومنتجًا ومشرفا وكل شيء في العمل من ألفه إلى الياء، حتى لو كانت الأدوار الأخرى تقارب دوره في الحجم، كما في العاصوف.

ما سبق هو الفصل الأول من قصة العاصوف، أو لنقل إنه مقدمة لا بد منها إن نحن أردنا التصدي لتقويم هذا العمل الضخم، نعم لا بد منها لأنَّ نرجسية القصبي أو ربما قناعاته وحساباته الخاطئة التي أفضت به إلى فض الشركة مع السدحان وهجر الوطن بشكل نهائي قد انعكست بشكل سلبي جدا على المسلسل وأضعفته أداء وإخراجا وإنتاجا.

ممَّا أحدث فجوة هائلة بين النص الجميل المعبر الذي سطرته أنامل المبدع الوابلي وبين الواقع الهزيل الذي ظهر به على شاشة الـ mbc، وقد ظهر هذا التأثير أكثر ما ظهر في جانبين:

الجانب الأول: فريق العمل (التمثيل والإخراج وغيرهما):

فالممثلون خليط من السعودية والبحرين والإمارات والمغرب، وحتى السعوديون منهم خليط من جميع المناطق والبيئات، وهذا أدى إلى تباين اللهجة بين أفراد الأسرة الواحدة، وهذا طبعًا غير مقبول؛ إذ لأهل الرياض لهجة خاصة لم يتقنها من بين الممثلين سوى السكيرين بالدرجة الأولى وريم عبدالله بالدرجة الثانية.

والمخرج سوري فلسطيني، فكيف له أن يخرج مسلسلًا يحكي واقع الرياض قبل أربعين عاما!! ما الذي يعرفه عن بيئة الرياض، عن بيوتها وشوارعها وأسواقها ومتنزهاتها وعادات أهلها و...و... في تلك الفترة ؟!!

وكيف يمكن له تحويل هذا النص المكتوب إلى مشاهد وأصوات وشخصيات تجسده أحسن تجسيد وهو ابن بيئة أخرى لا علاقة له بتلك البيئة لا زمانًا ولا مكانًا؟!!

هل يمكن للمثنى صبح أن يدرك أن كراسي الطلاب في التسعينات الهجرية تحتلف عن تلك التي ظهرت في المسلسل؟!

أو يمكن له أن يدرك أن عبارات مثل (حس فيني) و (من طلعت) وغيرها لم تكن مستعملة إطلاقا في ذلك الوقت؟!!

لقد كان الخيار الأفضل للقصبي أن يختار مخرجًا من أبناء تلك البيئة نشأ وترعرع فيها ولديه إلمام بكل تفاصيلها يتولى اختيار الشخصيات والديكورات، ويصوِّب ويصحح الأخطاء، ولكن أنى له أن يفعل ذلك وهو بعيد عن هذه البيئة ومستقرٌ بشكل كامل في دبي؟!

ثم كيف يمكن أن نتصور أن نرجسية القصبي ستسمح أن يجلب له من جديد من ينافسه على نجومية المسلسل؟!

الجانب الثاني: بيئة العمل:

وهذه سقطة أكبر من أختها؛ لأنه إذا كان بإمكان القصبي أن يعتذر عن سوء اختيار طاقم العمل بعدم وجود كوادر سعودية كافية من منطقة الرياض تغطي شخصيات المسلسل -مع أننا لا نسلم له بذلك- فإنه لا مبرر إطلاقًا لأن يترك بيئة المسلسل الحقيقية في الرياض.

ويصنع صورة مشوهة لها في دبي إن الرياض لا تزال تحتفظ بكثير من بيئة ومعالم تلك الفترة التي يصورها المسلسل فما الحاجة إلى الاعتماد على بيئة أخرى وأمامنا البيئة الحقيقية؟!!

إنه فعلًا سؤال مؤرق، ما قصة القصبي مع الرياض؟!!

وهل يمكن أن نتخيل أن مجرد رغبة بطل المسلسل في عدم مغادرة دبي تستدعي أن يتجشم عناء السفر إليه ليس فريق العمل فقط بل بيئته أيضا؟!!

أي جنون هذا؟!!

لنتخيل أنَّ العمل أنتج في الرياض ما الذي سيحدث حينها؟

سيتم تفريغ حارة كاملة من حواري الرياض القديمة لتصوير أحداث الجزء الأول من المسلسل، وكلنا يعرف أن كثيرًا من حارات الرياض القديمة كمنفوحة والعود ومعكال والشميسي والسبالة وغيرها لا تزال تحتفظ بكثير من معالمها: شوارعها، وبيوتها الطينية، ودكاكينهاـ ومساجدها.

ثم في المرحلة التي تليها يتم نقل التصوير إلى منطقة عليشة أو الملز أو المربع، فأغلب حاراتها وفللها بطرازها المميز كما هي، ثم في المرحلة التي تليها يتم الانتقال إلى أحياء العليا القديمة بفللها المطرزة بالجملونات والمطلية بالجرانيت.

وكذلك الحال في كل أماكن التصوير الأخرى كالشوارع والمرافق التي يتطلبها العمل، فشارع الوزير كما هو في أغلب نواحيه، ومبنيا ناديي الهلال والنصر لا يزالان كما هما في شارع العصارات، ومستشفى الشميسي لا تزال مبانيه القديمة وممراته كما هي.

وحتى العمارة القديمة التي كانت مقرا للمحكمة الكبرى في الثمانينات والتسعينات لا تزال كما هي غرب شارع الثميري، وقصور الناصرية لا تزال شامخة لم يطرأ عليها أي تغيير.

وكذلك الحال في المدارس التي لا تزال بعض مبانيها موجودة كما هي قبل عصر العاصوف بعشرات السنين، كالمدرسة التذكارية وثانوية اليمامة وغيرها كثير.

هل ثَمَّ أصدق من الرياض في التعبير عن نفسها؟!

وهل يمكن أن تغني شيئًا هذه اللقطات المصطنعة في دبي التي تظهر بين الفينة والأخرى لمعالم الرياض منفصلة عن بيئتها الزمانية والمكانية؟!!

هل يعتقد القصبي أنَّ هذه المشاهد أو بعض الحوارات المباشرة الفجة الساذجة التي تذكرنا بالمسلسلات الإذاعية مثل (تمشينا في شارع الوزير)، أو (شفنا السينما في نادي الهلال) يمكن أن تكون بديلًا لتجسيدٍ حيٍّ مباشر نابض بالحياة فيما لو تم تصوير المسلسل في الرياض؟!!

مشكلة القصبي أنه يتخيل أنه بكفتة كم الثوب والزبيرية والأباريق الغضار يمكن أن يصنع بيئة ومشكلته الأخرى أنه يريد أن يكون كل شيء في المسلسل، البطل والمنتج والمخرج، ومشكلته الثالثة أنه لا يريد أن يغادر دبي، ويريد بعد هذا كله أن نصفق له ونصدق بنجوميته!!!

نسيت أن أقول: القصبي أصبح من كبار المثقفين في البلد (طبعًا أعني السعودية).