“أُصبت بمرض في طفولتي، وتوفيتُ قبل أن أبلغ 16 من عمري، فعملت نساء المدينة على تزييني ووضعي على سرير مصنوع من البرونز. القناع المصنوع من الذهب غطّى وجهي، وعلى يدي اليمنى كفٌ من الذهب، وأيضًا القلادة المصنوعة من الحجارة الكريمة، وقلادة أخرى بالتفاصيل عينها، إنما نُحتت عليها صورة وجهي، وهي الآن في المتحف الوطني، حيث يمكنكم جميعًا زيارتها والتعرُّف إلى حضارتي وحضارة أجدادي”.
هكذا جسدت ليندا فيصل حكاية هذه الطفلة أمام معرض مقتنياتها في مدينة جدة قبل أيام قليلة، وهي التي بقيت لأكثر من ألفي عام في قبرها، تأبى أن تُكشف قصتها، إلى أن قادت الصدفة فريقا من الأثريين إلى حكاية “ثاج”، وأميرتها التي دُفنت في كنز من الذهب، أسفل أرض المنطقة الشرقية.
على بعد 80 كم غربي الجبيل، تقبع “ثاج”؛ تلك القرية الممتدة في التاريخ لآلاف السنين، والتي بدأت أعمال الكشف فيها العام 1972 على يد بعثة أثرية دنماركية ترأسها عالم الآثار جيفري بيبي، قبل أن تستكمل هذه الأعمال على يد أثريين من المملكة في عام 1977 نفذوا أعمال تنقيب ومسح كان من نتاجها الكشف عن مدينة أثرية متكاملة تحت رمال الصحراء.
كانت “ثاج” مدينة متكاملة، يحيط بها سور خارجي ضخم مبني بالحجارة، يصل طول أحد أضلاعه إلى نحو 900 متر، عُثر داخله على جدران منازل، وأوانٍ فخارية وزجاجية، وحلي وأدوات للزينة، يقول عالم الآثار المصري زاهي حواس ومجموعة أخرى من الأثريين، إنها تعود إلى العصر اليوناني، وهي الفترة المعروفة باسم الدولة السلوقية من القرن الثالث قبل الميلاد.
لم تتوقف أعمال البحث الأثري في المنطقة، فعادت عام 2016، بعد أن أعلنت المملكة ضمن المشروع السعودي الفرنسي المشترك من خلال المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي (CNRS) عن العثور على مستوطنة سكنية تقع بالجهة الجنوبية للموقع، تعود للقرن الثالث- الرابع الميلادي.
هناك في هذه المستعمرة، عثر الأثريون على عدد من الأفران وسور البوابة الجنوبية للمدينة القديمة، بالإضافة إلى أوانٍ فخارية، منها ما يشير إلى التعاون مع العالم الخارجي مثل فخار بحر إيجة ومن بلاد الرافدين ونوع فريد من الفخار المزجج من الهند، هذا بالإضافة إلى الكشف عن مجموعة من نقوش المسند الأحسائي.
كل شيء هنا كان يدل على مملكة قائمة حكمت منطقتها يومًا ما في الأزمان الغابرة. كل شيء موجود ويتكشف إلا آثار من حكم هذه المملكة، وقد بقي البحث عنه حتى قادت الأبحاث علماء آثار سعوديون عام 1998 إلى اكتشاف الكنز الأهم في هذه “ثاج” الأثرية: حجرة جنائزية مع قطع أثرية وقناع ذهبي عائد إلى الحقبة الهلنستية.
اقرأ أيضًا: شاهد.. قطع أثرية سعودية اشتهرت عالميًا بقيمتها الفنية والتاريخية
وجد السعوديون أخيرًا ما سيكتشفون أنه مقبرة الأميرة الطفلة التي عاشت في القرن الأول الميلادي.
يحكي محمود بن يوسف الهاجري، أخصائي الآثار، عن قبر أميرة “ثاج”، فيقول: “كان هذا أكبر إنجاز سعودي تم داخل هذا الموقع. كان هذا المكان مكبا لأفران الفخار، وما كان يوحي بشيء أسفله، حتى فوجئ أفراد الفريق بوجود المدفن.. بناء جمعت أحجاره من الأماكن القريبة من ثاج، وهناك من حفرة ظهرت، عثرنا على التابوت والمقبرة وما بها من قطع ذهبية وحُلي”.
“كلما حفرنا كنا نكتشف ذهبا أكثر وآثارا أكثر دهشة”؛ يقول “الهاجري” في لقاء تلفزيوني مع فضائية “السعودية”.
في إنجاز وطني.. اكتشاف مدفن ملكة قرية "ثاج" الأثرية.#جذور | #قناة_السعودية pic.twitter.com/wJ6dfXMOrm
— قناة السعودية (@saudiatv) January 9, 2024
داخل المقبرة عثر الأثريون السعوديون على بقايا من الأميرة الصغيرة -لا يتجاوز عمرها 16 عامًا- وقد حُضر جثمانها قبل ألفي عام على سرير من الخشب بدعائم برونزية، مع مجموعة من الرقائق الذهبية، أكبرها القناع الذي يبلغ طوله 17 سنتيمترًا، وقد رسم ملامح الفتاة التي كانت تضع على أعلى رأسها 3 عُصابات من الذهب، وكفّ يبلغ طولها 15 سنتيمترًا.
ضمت المقبرة أيضًا عقدين من الذهب مزينين بالياقوت واللآلئ والفيروز، ولأحدهما نوط يتدلى منه حجر جزع يمثّل وجهًا، يبلغ طوله 38.5 سنتيمتر، إضافة إلى عقد يتألّف من 18 حبة لؤلؤ مذهّبة، وعقد ثالث طوله 22.5 سنتيمتر.
رحلتنا لاكتشاف كنوزنا الثقافية مستمرة. pic.twitter.com/8GCXz8HtUX
— بدر بن عبدالله بن فرحان آل سعود (@BadrFAlSaud) June 26, 2020
كما عُثر على تلبيسات من الذهب، يبلغ قُطر التلبيسة الواحدة 3.5 سنتيمتر، إضافة إلى قفاز من الذهب طوله 15 سنتيمترًا، وسوارين من الذهب المصمت، وخاتمين من الذهب مرصَّعين بياقوت أحمر محفور، يظهر على إحداهما جانبٌ من وجه شخص يعتمر خوذة، إضافة إلى قرطين من الذهب.
بالإضافة إلى ذلك، وجدت أيضًا قطعٌ ذهبية وبرونزية، نُثرت حول الرفات، إلى جانب قطع برونزية وفخارية عدة، وقطع للزينة من الذهب المطعَّم بالأحجار الكريمة، ودلائل أخرى تشير إلى هوية الطفلة الملكية في عصر شهد ثراء غير مشهود.
وقد أظهرت العديد من الدراسات الأولية أن الموقع يعود إلى 500 قبل الميلاد، وامتد إلى القرون التالية وصولًا إلى الفترة الإسلامية.