يطرح الحديث عن إبرام اتفاق مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تساؤلات جدية حول العواقب المحتملة لمثل هذا الاتفاق على الأمن الدولي ومستقبل أوكرانيا.
فبينما يدعو البعض إلى التفاوض كوسيلة لإنهاء الحرب المستمرة، يرى آخرون أن أي تنازل لبوتين سيُعد تشجيعا لمزيد من الفوضى على الساحة العالمية.
ويتساءل الباحث فريدريك ستار، رئيس معهد آسيا الوسطى والقوقاز، في تقرير نشرته مجلة ناشونال إنتريست الأمريكية قائلا: ماذا لو خسرت روسيا حربها على أوكرانيا؟ ويقول إن البعض يعتبر هذا السؤال تافها لأن رئيس كازاخستان قاسم جومارت أكد أن “روسيا لا يمكن هزيمتها عسكريا”.
هذا التفكير دفع توكاييف، وكذلك العديد من الأطراف في الغرب، إلى الدعوة لإبرام اتفاق مع بوتين، وهو اتفاق من المرجح أن يؤدي إلى فقدان كييف أراض تعتبرها الأمم المتحدة والولايات المتحدة وأوروبا جزءا من السيادة الأوكرانية.
ويقول ستار إن تصريحات توكاييف القلقة مفهومة، إذ أن بلاده تحت التهديد. فقد أعلن بوتين نفسه أن لا أساس تاريخيا لسيادة كازاخستان. كما أن شريكه دميتري ميدفيديف ربما هدد بغزو هذا البلد الآسيوي المركزي الفخور.
لكن هذه الادعاءات خاطئة تماما. ويجب على الغربيين المترددين الذين يكررون مثل هذه المزاعم ويستخدمونها لتقديم مقترحات “صفقة” مع موسكو أن يعترفوا بذلك وينظروا في البديل. إن روسيا لا تحقق سوى تقدم بطيء في أوكرانيا مع خسائر غير مستدامة في الأرواح والمعدات، ولم تتمكن حتى الآن من إخراج القوات الأوكرانية من أراضيها في كورسك.
ويرى ستار أن الهزائم العسكرية السابقة لروسيا عادة ما تؤدي إلى عواقب إيجابية. ودون الخوض بعيدا في التاريخ، هناك حرب القرم بين عامي 1852 و1855، والتي خسرتها روسيا بشكل حاسم.
وأدى الانهيار الناتج عنها إلى إلغاء نظام العبودية الإقطاعية الروسي عام 1861 (أي قبل عامين من إلغاء لينكولن للعبودية في أمريكا)، وإلى نظام قانوني جديد، وحكم ذاتي انتخابي في المقاطعات، شارك فيه كل من تولستوي وتشيخوف بنشاط.
أما الهزيمة المهينة في الحرب الروسية-اليابانية بين عامي 1904 و1905 فقد أدت إلى مزيد من الإصلاحات وإنشاء أول برلمان منتخب في روسيا، وهو الدوما.
وربما كانت الإصلاحات المعتدلة قد استمرت بعد هزيمة القيصرية في الحرب العالمية الأولى، ولكن الفوضى العامة التي سادت في تلك الحقبة مكنت فلاديمير لينين وحزب البلاشفة من الاستيلاء على السلطة.
وانتهت حرب الشتاء التي شنها ستالين ضد فنلندا بنصر باهظ الثمن وطرد الاتحاد السوفيتي من عصبة الأمم. وأخيرا، انتهت الحرب السوفيتية التي استمرت عشر سنوات في أفغانستان بين عامي 1979 و1989 بانسحاب مذل وانهيار الاتحاد السوفيتي بعد ذلك بعامين.
ويقول ستار إن هناك ثلاثة أسباب رئيسية دفعت الولايات المتحدة وحلفاءها الأوروبيين إلى رفض دعوات الحكومة الأوكرانية لتحقيق النصر على المعتدين. أولا، يخشون أن يقوم بوتين، في لحظة يأس، باستخدام الأسلحة النووية التكتيكية في أوكرانيا أو في أماكن أخرى.
ومع ذلك، أشار العديد من المعلقين داخل روسيا إلى أن أوكرانيا قد تجاوزت بالفعل العديد من “الخطوط الحمراء” التي أعلنها بوتين دون أن يلجأ إلى استخدام الأسلحة النووية.
أما بالنسبة للخوف من أن تؤدي هزيمة روسيا إلى انتشار الأسلحة النووية “المتسربة”، فإن القادة الروس بمختلف توجهاتهم يدركون تماما أن أي تحرك من بوتين لتنفيذ تهديداته النووية سيواجه برد فوري ومدمر من الولايات المتحدة، ليس فقط على الجيش الروسي بل على البلاد بأكملها.
ثانيا، يعتمد شركاء أوكرانيا في استراتيجيتهم على تقييماتهم الخاصة، التي تكون غالبا غير دقيقة، للوضع في ساحات القتال. والأوضاع هناك صعبة للغاية، لكنها صعبة على الجانبين، وليس فقط على الأوكرانيين.
والجيش الروسي، المجهز بشكل سيئ، يعاني من نقص في المعدات القتالية، في حين أن قواته المجندة التي تعاني من انخفاض الروح المعنوية تموت بأعداد مرعبة بسبب قيادات بائسة، يوجهون إليها انتقادات لاذعة عبر هواتفهم المحمولة.
كما أن وجود الكوريين الشماليين في ساحة المعركة، بدلا من أن يساهم في وقف التدهور، يزيده سوءا مع تزايد حوادث النيران الصديقة بشكل ملحوظ. وفي الوقت نفسه، يقترب بوتين من استنزاف “صندوق الطوارئ” الضخم الذي كان يمول حربه حتى الآن.
ثالثا، والأهم من ذلك، هو أن روسيا تخسر الحرب بسرعة على الجبهة الداخلية. وفرضت الرقابة الصارمة، حتى وقت قريب، حظرا على النقاش العام حول الحرب نفسها.
ومع ذلك، فإن هذا القمع لم يتمكن من إسكات النقاش العام حول تأثير الحرب على أقاليم روسيا ومدنها وريفها.
وتشهد أسعار السلع الأساسية ارتفاعا حادا، والخسائر الهائلة في الأرواح خلال القتال تترك عددا أقل من الرجال لمساعدة الزوجات والعائلات والمجتمعات في مواجهة الكارثة المتفاقمة.
وتزيد الجرائم التي يرتكبها الجنود العائدون من الحرب من الفوضى السائدة. وبعبارات واضحة، فإن الجبهة الداخلية لبوتين تنهار.
ويتساءل ستار، لماذا يسعى المسؤولون في واشنطن وحلفاؤهم في أوروبا جاهدين للتوصل إلى اتفاق مع بوتين؟ ويقول إن أي اتفاق من هذا النوع لا يعيد أوكرانيا بالكامل إلى الحدود التي تعترف بها الأمم المتحدة سيرسل رسالة واضحة، ليس فقط إلى بوتين نفسه، بل أيضا إلى داعميه المتناقصين في أماكن أخرى.
وبالنظر إلى أن الحرب في أوكرانيا أصبحت بالفعل الأكثر دموية في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، قد يعتبر دعاة الاتفاق مع موسكو في الغرب أن التنازلات الحتمية ثمن بسيط.
لكن أي اتفاق كهذا سيمكّن بوتين من البقاء في السلطة رغم المعارضة الداخلية المتزايدة، ويمنحه الفرصة لإعلان النصر، وتعزيز تحالفه مع الصين وكوريا الشمالية وإيران.
كما سيجبر أوكرانيا وأوروبا والولايات المتحدة على إنفاق المزيد لإعادة بناء دفاعاتهم ضد روسيا المتجددة. وسيشجع على المزيد من الفوضى في أجزاء أخرى من العالم لأن الولايات المتحدة والغرب سيظهران كمترددين ومستعدين للتنازل بسهولة.
وسيكون من الأفضل بكثير للولايات المتحدة وحلفائها في الناتو الاستمرار في دعم استعادة أوكرانيا الكاملة لحدودها القانونية من خلال المساعدات العسكرية والإنسانية.