هشام الجاسر
مهتم في المجال النفسي والثقافي
في زمن تتسارع فيه التطورات التكنولوجية بشكل مذهل، لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة لتحليل البيانات والرد على الاستفسارات، بل أصبح يتغلغل في أدق تفاصيل حياتنا، حتى بات يجلس على “كرسي المعالج النفسي”، مستعدًا للإصغاء وتقديم الحلول.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل بإمكان الخوارزميات أن تصبح بديلًا للأذن المصغية والقلب المفتوح، أم أن الأمر مجرد وهم رقمي؟
تعتمد تشخيصات الأزمات النفسية بشكل كبير على ما يبوح به المريض من مشاعر وسلوكيات وأفكار.
وهنا أثبت الذكاء الاصطناعي قدرته المذهلة على تحويل الكلمات إلى بيانات دقيقة تتجاوز التحليل السطحي، لتغوص في أعماق السياق والمشاعر الكامنة خلفها.
تخيل ملايين المنشورات على منصات مثل Reddit وQuora وTwitter ومجموعات الدعم النفسي في Facebook وغيرها الكثير، حيث يشارك المستخدمون قصصهم الشخصية بصدق وتلقائية، يتحدثون عن معاناتهم، يسألون، ويبحثون عن حلول ومواساة. هذا التدفق الهائل من المشاعر والتجارب جعل الذكاء الاصطناعي أشبه بـ”أرشيف حيّ للمعاناة الإنسانية”، يفيض بالحكايات، التشخيصات، والتجارب الغنية بالدروس والمواقف.
ومع الترويض المستمر لهذه النماذج على يد خبراء وأخصائيين في مجال الصحة النفسية.
من خلال هذه البيانات الضخمة، اكتسب الذكاء الاصطناعي قدرة استثنائية على مقارنة الحالات واستخلاص تشخيصات دقيقة تستند إلى أنماط متكررة من التجارب البشرية، ليصبح مرجعًا رقميًا يعكس ما تمر به النفس البشرية في أكثر لحظاتها صدقًا وتعقيدًا، ويدفع حدود الفهم التقليدي إلى أبعاد لم تكن ممكنة من قبل.
في ندوة عن تأثير الذكاء الاصطناعي، روت إحدى الحاضرات تجربتها قائلة: “وجدت في نموذج المعالج النفسي في ChatGPT أخصائيًا لا يتعب، يستمع إليّ مهما طالت شكواي، ويقدم لي تقنيات علاج معرفي سلوكي بأسلوب متطور جعلني أشعر بأنني مفهوم تمامًا.”
كما شاركت أخرى تجربتها قائلة إنها استبدلت الشيخ الذي كانت تستشيره بنموذج ذكاء اصطناعي يزودها بأدعية مصممة خصيصًا لحالتها النفسية، بناءً على محادثاتها السابقة. وأضافت: “شعرت بروحانية عميقة لم أتوقعها، وكأن الذكاء الاصطناعي هو الحاجة التي تفهمني دون عناء الشرح
بدأ بعض الأخصائيين النفسيين بتسجيل الجلسات العلاجية وتحويلها إلى نصوص لتحليل الكلمات، والنبرة، وطريقة الوصف بدقة، مما يمنحهم فهمًا أعمق لحالة المريض وتفاصيل مشاعره. هذا الأسلوب يجعل التشخيص أكثر دقة، ويتيح بناء خطة علاجية مخصصة تعكس واقع الحالة بشكل شامل.
ورغم أن الذكاء الاصطناعي لا يزال في “مرحلة الطفولة”، إلا أن الاحتمالات المستقبلية مذهلة. فماذا لو تم دمجه بتقنيات الواقع الافتراضي، ليصبح الأخصائي الافتراضي قادرًا على رؤية الحالة في بيئة تحاكي الواقع أو حتى مراقبة حياتك كما هي، ومتابعة تفاعلاتك واقتراح حلول فورية؟ ماذا لو استطاع تنفيذ محاكاة تجمع بين مواقف افتراضية وتجارب حقيقية، تساعدك على مواجهة المخاوف والتغلب على المواقف المعقدة بشكل مباشر؟
تخيل أن بإمكانك استعراض مشاهد من حياتك وكأنها فيلم، حيث تُسجل مشاعرك ويُراقب حديثك أثناء اللحظات الصعبة، دون الحاجة إلى الشرح أو التبرير.
إن دمج هذه التقنيات قد يُحدث نقلة نوعية في مجال العلاج النفسي، إذ يوفر فهماً أعمق للحالة ليس من خلال الكلمات فقط، بل عبر رصد المشاعر والتجارب في لحظتها الحقيقية.
فهل يمكن لهذا التطور أن يساهم في تقليل انتشار أمراض مثل القلق والاكتئاب؟ وهل نحن على أعتاب زمن جديد يعيد فيه الذكاء الاصطناعي رسم ملامح العلاج النفسي بطرق لم تكن ممكنة من قبل؟
يبقى تساؤل يلوح في الأفق: هل يمكن أن يستغني البشر عن البشر؟ لقد أصبحنا نسمع اليوم مصطلحات جديدة لم تكن موجودة من قبل: أخصائي ذكاء اصطناعي وأخصائي بشري، مدرب ذكاء اصطناعي ومدرب بشري، مترجم ذكاء اصطناعي ومترجم بشري، وحتى مبرمج ذكاء اصطناعي مقابل مبرمج بشري, إلى آخر هذه المقارنات.
وكأننا نعيش في عصر تُقاس فيه الكفاءة بمدى ارتباطها بالخوارزميات، ما يجعل السؤال أكثر إلحاحًا: هل ستصبح كلمة “بشري” مرادفًا للنقص، وكأن الذكاء الاصطناعي هو المعيار الجديد للكمال؟
لقد سمعت كثيرًا عن انخفاض الإقبال على الدورات التدريبية التقليدية، حيث بات الذكاء الاصطناعي يقدم تدريبًا فوريًا مخصصًا، يتكيف مع احتياجات المتعلم في أي وقت. حتى جلسات العصف الذهني، التي كانت رمزًا للإبداع الجماعي، أصبحت تُدار بواسطة الذكاء الاصطناعي، حيث تُصمم نماذج لعقول افتراضية من علماء في تخصصات مختلفة، تقدم أفكارًا مذهلة تجعل البعض يزهد في جلسات العصف “البشرية” التقليدية.
فإلى أين يمضي بنا هذا التطور؟ هل سيظل الإنسان في قلب المشهد، أم أن سباق الذكاء الاصطناعي سيجرده من دوره؟
أسئلة ملحّة تستحق الوقوف أمامها بوعي، فبينما نقف على أعتاب مستقبل مذهل، كيف نضمن ألا نفقد إنسانيتنا وروحنا المشتركة، وألا يغيب إحساسنا بالحاجة لبعضنا في خضم سباق التطور الرقمي؟