الدكتور فيصل الشمري- كاتب ومحلل سياسي مختص بالشأن الأمريكي
على مر التاريخ، كان تدخل الولايات المتحدة في أوراسيا وما حولها الأكثر بروزًا، حيث أظهرت واشنطن حزمًا واضحًا في الدفاع عن مصالحها هناك. وتشير التوقعات إلى أن هذا النهج سيستمر في المستقبل، خاصة أن هذه المنطقة تُمثل محور السياسات الأمريكية في مواجهة التحديات العالمية.
القوى العظمى والمصالح
غالبًا ما يُقال إن القوى العظمى لا تمتلك أصدقاء بل مصالح. وهذا ينطبق بشكل كبير على الولايات المتحدة التي أصبحت قوة عظمى بعد الحرب العالمية الثانية، حيث بزغ ما يُعرف بـ”السلام الأمريكي” أو Pax Americana. ورغم هذا الحضور القوي، فإن بدايات الولايات المتحدة عام 1776 كانت بعيدة تمامًا عن الطموحات العالمية، إذ كانت تسعى لعزل نفسها عن الصراعات الدولية، مفضلة التركيز على بناء دولتها الناشئة.
التحول نحو الطموحات العالمية
بدأت الولايات المتحدة خطواتها الأولى نحو تحقيق حضور عالمي في أوائل القرن التاسع عشر. حينها، أرسلت قواتها إلى البحر المتوسط للتصدي للقراصنة البربر الذين كانوا يهددون التجارة الأمريكية. وفي نفس الفترة، كانت هناك تهديدات حقيقية من غزو فرنسي لمنطقة الكاريبي ولويزيانا، ما أثار مخاوف الولايات المتحدة من احتمال اضطرارها إلى تقاسم القارة مع الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت.
لكن نابليون قرر بيع لويزيانا، في خطوة شكلت منعطفًا هامًا في تاريخ الولايات المتحدة، حيث أدى هذا التوسع الجغرافي إلى فتح آفاق جديدة أمامها. امتدت الأراضي المكتسبة غرب نهر المسيسيبي من السهول الكبرى إلى جبال الروكي، وحتى الحدود مع كندا، مما وضع الأسس الأولى لتحولها إلى قوة عالمية.
تعزيز الأمن الداخلي
لم يمضِ وقت طويل على توسع الولايات المتحدة حتى دخلت حربًا ثانية مع بريطانيا، ما دفع قادتها إلى التركيز على تعزيز الأمن الداخلي ومواجهة النفوذ الأوروبي المتزايد. في هذا السياق، أعلن الرئيس جيمس مونرو مبدأ مونرو، الذي يهدف إلى منع القوى الأجنبية من التدخل في شؤون الأمريكتين، شمالها وجنوبها. ورغم أن هذا المبدأ لم يكن هجوميًا بطبيعته، إلا أنه أظهر لأول مرة استعداد الولايات المتحدة للتفكير في دور عالمي، ولو كان محدودًا في تلك المرحلة.
الحروب العالمية ودور الولايات المتحدة
شهد القرن العشرون تطورًا كبيرًا في السياسات الأمريكية، خاصة مع اندلاع الحربين العالميتين الأولى والثانية، والحرب الباردة التي امتدت بين عامي 1917 و1989. في تلك الحروب، أكدت الولايات المتحدة على مصالحها العالمية عندما شعرت بأنها مهددة، وكانت الساحة الرئيسية لهذه المواجهات هي أوروبا، حيث كانت تواجه قوى معادية قادرة على إسقاط قوتها عالميًا.
هدف الولايات المتحدة الأساسي في تلك الحروب كان منع توحيد أوراسيا تحت هيمنة قوة واحدة أو تحالف استراتيجي بين قوى معادية. ففي الحرب العالمية الأولى، عملت واشنطن على تقويض طموحات ألمانيا التي سعت لتحقيق الهيمنة العسكرية في أوروبا. ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية، كان الهدف ذاته قائمًا، حيث سعت ألمانيا النازية بقيادة أدولف هتلر للسيطرة على أوروبا، بما في ذلك روسيا والقوقاز.
التحدي الألماني وأمن الولايات المتحدة
لو تمكنت ألمانيا خلال الحربين العالميتين من السيطرة على موارد روسيا وأوكرانيا والقوقاز وحتى منطقة بحر قزوين، لكانت ستشكل تهديدًا مباشرًا للأمن الأمريكي. كانت واشنطن تدرك أن وجود ألمانيا موحدة ومهيمنة على أوراسيا يعني تهديدًا خطيرًا قد يصل إلى الأراضي الأمريكية، ما دفعها إلى خوض الحربين بكل قوة.
الحرب الباردة والتهديد الروسي
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، دخلت الولايات المتحدة في حقبة جديدة من المواجهة مع الاتحاد السوفيتي في إطار الحرب الباردة. ورغم اختلاف السيناريو عن الحروب العالمية، إلا أن الهدف الأساسي ظل كما هو: منع هيمنة قوة واحدة على أوراسيا.
ركزت السياسات الأمريكية في تلك الفترة على منع روسيا من السيطرة على ألمانيا، التي كانت تمتلك قدرات صناعية وتكنولوجية متقدمة. لو تمكن الاتحاد السوفيتي من تحقيق ذلك، لكان قد ضمن السيطرة على أوروبا، ما يعني تعزيز قوته في أوراسيا. بين عامي 1945 و1989، عملت الولايات المتحدة بحزم على تحجيم النفوذ الروسي في أوروبا، وضمان عدم وقوع القارة بأكملها تحت هيمنة موسكو.
التدخل الأمريكي في أوراسيا: حاضر ومستقبل
بالنظر إلى تاريخ التدخلات الأمريكية، نجد أن التركيز الأكبر كان دائمًا على أوراسيا. الأسباب وراء ذلك واضحة؛ فهي المنطقة الوحيدة التي يمكن أن تُنتج قوة قادرة على منافسة الولايات المتحدة اقتصاديًا وعسكريًا. لذا، من المنطقي أن تستمر واشنطن في مراقبة هذه المنطقة عن كثب، والتدخل فيها عند الحاجة لحماية مصالحها.
في النهاية، ورغم التفسيرات المتنوعة لتدخلات الولايات المتحدة عبر التاريخ، يبقى العامل الثابت هو الحفاظ على توازن القوى ومنع أي هيمنة مطلقة في أوراسيا. من الواضح أن واشنطن تدرك أن أمنها القومي مرتبط بشكل كبير بمنع ظهور أي قوة مهيمنة في تلك المنطقة، وهو ما يفسر استمرارها في الحضور القوي والدفاع عن مصالحها هناك.