سعود النداح
باحث دكتوراه في سياسات الرعاية الاجتماعية وإدارة المؤسسات، مستشار اجتماعي
السفر ليس مجرد انتقال من مكان إلى آخر، بل هو عبور داخلي يعيد تشكيل رؤيتك للحياة. عندما تخطو في أرض جديدة، تشعر أن العالم يتسع أمامك، لكنه في الحقيقة يكشف لك اتساعك الداخلي. في زحام الحياة، نحن محاصرون بالروتين والضغوط، ننسى أن نتأمل، أن نتوقف قليلًا لنسمع صوتنا الداخلي وسط ضجيج العالم. السفر يمنحك هذه الفرصة النادرة، أن تهيم في الأرض لا لتكتشفها فقط، بل لتكتشف نفسك أيضًا.
في الطرقات التي لم تعهدها، وبين وجوه لم تألفها، تدرك أنك لست مضطرًا لحمل أعباء الماضي، ولا لارتداء الأقنعة التي اعتدت عليها. هناك، في الغربة عن كل ما تعرفه، تجد نفسك أكثر قربًا من حقيقتك. يصبح التأمل عادة، والتفكر ضرورة، والانتباه لما حولك أسلوب حياة. فجأة، تجد نفسك ترى الأشياء بعيون جديدة، تسمع الأصوات التي اعتدت عليها وكأنها تُسمع لأول مرة، تشعر بالمكان لا كمجرد بيئة، بل كقصة تُكتب وأنت أحد أبطالها.
الغريب في السفر أنه يجعلك تدرك أن أكثر ما تبحث عنه ليس في الخارج، بل في داخلك. كل مدينة تزورها، كل تجربة تعيشها، كل حديث عابر تخوضه مع شخص غريب، كلها تنحت فيك جزءًا جديدًا، أو ربما تعيد إليك جزءًا كنت تظن أنك فقدته. في البعد عن المألوف، تدرك أن ما ظننته ضروريًا قد يكون غير ذلك، وأنك قادر على الاستمتاع بالحياة بأقل مما كنت تتصور.
السفر ليس هروبًا، بل لقاء مع الذات. إنه استثمار في الإنسان الذي ستصبح عليه عند عودتك، حيث تحمل معك نسخة أكثر نضجًا، أكثر وعيًا، وأكثر صفاءً. فكما قال الشاعر:
“فل الحجاج وخل عن الهواجيس
كلن يموت وحاجته ما قضاها”
لا تؤجل لقاءك مع نفسك، لا تؤجل رحلتك نحو الحقيقة. دع الأرض تقودك، ودع قلبك يهيم في المجهول، فهناك حيث لا شيء مألوف، ستجد نفسك أقرب مما كنت تتخيل.