الدكتور فيصل الشمري- كاتب ومحلل سياسي مختص بالشأن الأمريكي
ظهرت مؤخرًا في الصحافة الأجنبية صور لجسور عائمة ضخمة مدعومة بسفن حربية، التُقطت قبالة الساحل الشمالي الشرقي للصين. هذه ليست مجرد منشآت هندسية، بل معدات عسكرية مصممة لتمكين شن هجمات برمائية واسعة النطاق. الأمر لا يقتصر على استعراض للقوة، بل هو رسالة استراتيجية توحي بأن الصين تستعد لسيناريوهات تتجاوز مجرد التهديدات الكلامية.
خطوة ضمن إطار تصعيد أكبر
لا يمكن النظر إلى هذا التحرك بمعزل عن التصعيد المستمر بين الصين وتايوان. فبالنسبة لبكين، تايوان ليست مجرد جزيرة مجاورة، بل جزء من أراضيها السيادية. إن بناء جسور عائمة بهذا الحجم وهذه القدرات يشير إلى أن الصين لا تلوّح فقط بالقوة، بل تستعد فعليًا لتحركات عسكرية جادة، تتراوح بين عمليات إنزال على الشواطئ وهجمات برمائية واسعة النطاق.
ما هو لافت هنا ليس حجم هذا التحرك فقط، بل الرسالة التي ينقلها: بكين تستعد ليس فقط للردع، بل لاحتمال المواجهة. وهذه الاستعدادات تعني أن الصين تفكر بجدية في سيناريوهات قد تعيد صياغة ديناميكيات الأمن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
المكاسب الاستراتيجية والمخاطر المحتملة
المكاسب الاستراتيجية بالنسبة للصين:
- استعراض واضح للقوة العسكرية، من شأنه تغيير نظرة القوى الإقليمية والدولية لقدرات الصين.
- زيادة الضغط على تايوان للدخول في مفاوضات بشروط تفرضها بكين.
- رسالة موجهة إلى واشنطن وحلفائها مفادها أن الصين على استعداد لفرض قواعد جديدة في منطقة المحيط الهادئ.
المخاطر والإخفاقات المحتملة:
- احتمال الدخول في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة، التي ما زالت ملتزمة بالدفاع عن تايوان.
- التكاليف العسكرية والاقتصادية الضخمة، التي قد تزيد من الضغط على الاقتصاد الصيني في ظل تباطؤ النمو.
- خطر الهزيمة، الذي سيشكل ضربة قاسية لهيبة الجيش الصيني وإدارة الرئيس شي جين بينغ.
التأثيرات على الاقتصاد العالمي
أي تحرك عسكري صيني ضد تايوان سيؤدي إلى تداعيات اقتصادية كارثية على مستوى العالم. فتايوان تُعد مركزًا لصناعة أشباه الموصلات، وأي اضطراب في إنتاجها سيؤدي إلى نقص عالمي في الرقائق الإلكترونية، ما سيؤثر على كل شيء من الهواتف إلى السيارات والطائرات.
كما أن الحرب في مضيق تايوان ستؤثر على خطوط الشحن البحري التي تنقل جزءًا كبيرًا من التجارة العالمية. ستتأثر أسواق الطاقة بشدة، مع ارتفاع أسعار النفط والغاز بسبب حالة عدم اليقين واضطرابات النقل. وستتأثر الأسواق المالية العالمية بشكل كبير، مع هروب رؤوس الأموال إلى الملاذات الآمنة، مما يزيد من هشاشة الاقتصاد العالمي.
ماذا يعني الفشل بالنسبة للصين؟
أي فشل في غزو تايوان سيكون كارثيًا على بكين:
- داخليًا، سيضعف مكانة الجيش الصيني وهيبة الرئيس شي جين بينغ، الذي ارتبطت قيادته بمشروع استعادة مجد الصين.
- خارجيًا، سيشجع منافسي الصين ويقوض نفوذها الدولي.
- اقتصاديًا، قد يؤدي ذلك إلى هروب ضخم لرؤوس الأموال، وتراجع ثقة المستثمرين، ودخول الاقتصاد الصيني في مرحلة ركود طويلة الأمد مليئة بعدم اليقين.
ماذا يعني النجاح للنظام العالمي؟
في المقابل، فإن نجاح الصين في غزو تايوان سيغير بشكل جذري ميزان القوى العالمي:
- تراجع الهيمنة الأمريكية في شرق آسيا: حيث ستضطر شركاء أمريكا مثل اليابان وكوريا الجنوبية إلى إعادة النظر في تحالفاتهم الاستراتيجية، وربما الاتجاه نحو أطر أمنية بديلة أو حتى التقرب من النفوذ الصيني المتنامي.
- صعود الصين كقوة مهيمنة بلا منازع في آسيا: سيدخل الإقليم مرحلة جديدة تفرض فيها بكين قواعدها في الأمن والتجارة، مع امتداد نفوذها إلى المحيط الهادئ.
- نهاية الأحادية القطبية: فوز الصين سيشكل نهاية فعلية لهيمنة الولايات المتحدة، ويمهد لنظام متعدد الأقطاب تتقاسم فيه بكين وواشنطن وموسكو مراكز القوة.
- زيادة الحضور الصيني في الشرق الأوسط وأفريقيا: حيث ستترافق المشاركة الاقتصادية الصينية مع نفوذ سياسي وعسكري متزايد، ما سيدفع الدول العربية وغيرها من الدول إلى إعادة صياغة سياساتها الخارجية.
- إعادة تصميم هياكل التجارة والعملة عالميًا: حيث قد تسرع الصين جهودها في تقليص الاعتماد على الدولار الأمريكي وتعزيز دور اليوان كعملة احتياطية دولية.
الخاتمة
يبقى مضيق تايوان أخطر النقاط الجيوسياسية على وجه الأرض اليوم. التحركات الصينية الأخيرة، بما في ذلك نشر الجسور العائمة الضخمة والمناورات العسكرية، ليست خطوات عشوائية، بل إشارات مدروسة على جاهزية للتعامل مع سيناريوهات قد تعيد رسم خريطة القوى في العالم.
إذا خرجت الصين منتصرة، فقد نشهد ولادة نظام عالمي جديد لا تتركز فيه القوة في واشنطن وحدها، بل تتوزع بين أقطاب متنافسة. أما إذا فشلت، فإن التداعيات على بكين — وعلى الرئيس شي جين بينغ شخصيًا — ستكون عميقة وطويلة الأمد. وفي كلتا الحالتين، لن تظل النتائج محصورة في تايوان أو منطقة المحيط الهادئ. فخيارات بكين وواشنطن خلال الأشهر المقبلة قد تعيد صياغة العلاقات الدولية، والاقتصاد العالمي، وهياكل الأمن لعدة عقود قادمة. العالم اليوم يقف على عتبة لحظة مصيرية، حيث أي خطأ في الحسابات قد يشعل أزمة عالمية تماثل في ضخامتها التحولات التي أعقبت الحربين العالميتين.