هشام محمد الجاسر
مهتم في المجال النفسي والثقافي
في أغوار النفس الإنسانية: الحقيقة التي لا تُخفى
في أغوار النفس الإنسانية حقيقةٌ يتعذّر إخفاؤها طويلًا، فمهما تجمّل المرء بأقوال منمّقة أو أفعال مصطنعة، يظلّ جوهره الحقيقي يشعّ من حوله كالهالة الخفية. كثيرًا ما نقابل أشخاصًا نشعر بالراحة والألفة في حضورهم دون أن يبذلوا أي جهدٍ لإبهارنا؛ وكأنّ روحهم تبثّ طمأنينةً صامتةً في المكان. وعلى النقيض، قد نلقى من يتظاهر باللطف وحسن الخلق، لكننا نستشعر توترًا أو نفورًا غامضًا ينبعث من أجوائه. من هنا تتبلور فكرة أنّ الإنسان يُعرَف بما يُشيعه حوله من مناخٍ روحيٍ ونفسيٍ، لا بمجرّد ما يُظهره من كلامٍ أو تصرّفاتٍ ظاهريّة. وكما قيل: “أن الناس قد ينسون ما قلتَهُ أو فعلتَه، لكنهم أبدًا لن ينسوا كيف جعلتهم يشعرون”؛ إنّ أثر الشعور الذي نخلقه في الآخرين هو بصمة روحنا الباقية.
صفاء الذهن ينعكس على المحيط
تقول حكمة شرقية: “إذا تَنَقَّى عقلُ الإنسان، غَدَت بيئتُه نقية أيضًا”. هذه الحكمة تشير إلى أنّ صفاء الذهن والروح ينعكس على العالم من حولنا. فالشخص ذو الروح الطيبة الصافية يبعث في محيطه طاقة إيجابية تُعدي الآخرين. إننا نشعر بذلك عندما ندخل مجلسًا فيه إنسانٌ صادقٌ نقيّ السريرة؛ إذ يسود المكان جوٌ من السكينة والبهجة، وكأنّ الهواء نفسه أضحى أخفّ وألطف. وصاحب الخُلُق الفاضل الحقيقي سيجد حوله من يتأثّر بخلقه أو ينجذب إليه، فالجميع يتنفسون من جوّ روحه الصالحة دون تكلّفٍ أو ادّعاء. وهكذا يصبح الجوّ الذي يشيعه الإنسان مرآةً صادقةً لداخله؛ فكما تعكس المرآة ملامح الوجه، يعكس المناخ الوجداني المحيط بالمرء ملامح روحه.
تصنّعٌ لا يصمد أمام حقائق الروح
قد يخطر بالبال أنّه بالإمكان تمثيل هذه الأجواء الطاهرة وإتقان فنّ التصنّع لإقناع الناس بطيبةٍ زائفة، لكن حكمة التجربة الإنسانية تقول إنّ هذا لا يدوم. فالإنسان يستطيع أن يخدع العين والأذن بأقواله وأفعاله مدةً من الزمن، لكنه لا يستطيع أن يخدع قلبًا أحسّ بجوهره. يقول الصحابي عثمان بن عفّان رضي الله عنه: “ما أضمر أحدٌ سريرةً إلا أظهرها الله على صفحات وجهه وفَلَتات لسانه”. لقد وعى القدماء هذه الحقيقة فأكّدوا أنّ عامل الزمن يمحّص القلوب؛ فما يلبث المرائي أن ينكشف أمره مهما بلغ حذقه، لأنّ الجوّ الذي يخلقه لا ينبع من حقيقةٍ راسخةٍ بل من تصنّعٍ مؤقتٍ سرعان ما يعتريه التناقض. ولعل هذا ما عناه أحد الحكماء بقوله: “ما أنت عليه يُحدِّث بصوت عالٍ حتى إنني لا أسمع ما تقول” – فجوهر شخصيتك يصرخ بالحقيقة رغم محاولات التغطية عليها.
الجوّ الروحي: لغةٌ صامتةٌ لا تكذب
الجوّ الروحي أشبه بالنسيم العفوي الذي يهبّ من أعماق النفس؛ فإذا كانت الأعماق صافيةً هبّ النسيم عليلًا رخاءً، وإن كانت كدِرةً عاصفةً جاء الهواء خانقًا ومتربًا. ولا يمكن تصنيع النسيم العليل بمروحةٍ اصطناعية! هكذا لا يمكن تزوير الجوّ الذي يخلقه الإنسان حوله؛ فإن حاول افتعال طيبةٍ وهدوءٍ وهو مضطرب داخليًا، خرج منه جوٌّ متكلّفٌ سرعان ما يلمسه الآخرون. وقد شبّه نيتشه حال أصحاب النفوس الهابطة بأنهم “في حاجة دائمة إلى الكذب… إنه أحد شروط بقائهم”. فالمرء ذو الجوهر الفاسد لا يجد بدًّا من بناء مظهرٍ مخادعٍ يستر خواءه؛ ينسج الأكاذيب حول نفسه وحول مشاعره ليخفي الواقع. ويضيف نيتشه أنّ حاجتهم المستمرّة للكذب تعني أنّ قناعهم لا يمكن أن يُنزَع دون أن ينهاروا؛ أي إنّ بقاءهم مرهونٌ ببقاء الزيف. لكن هل يملك الكاذب أن يستمر في كذبه إلى الأبد؟ التاريخ والتجربة يقولان لا. فسرعان ما يتسرّب الصدق من الشقوق رغم حرص المتصنّع.
خاتمة
نخلص إلى أنّ جوهر الإنسان هو منارة وجوده التي يهتدي بها من حوله، شعوريًا ولاشعوريًا. قد تستطيع أن تخدع البعض لبعض الوقت، لكنك لا تستطيع أن تخدع الكلّ كل الوقت؛ لأنّ الهالة الوجودية التي تحيط بك ستنقل حقيقتك عاجلًا أم آجلًا. إنها لغةٌ صامتةٌ يفهمها القلب والحسّ وإن عجز اللسان عن وصفها. لذا فالأجدر بالإنسان أن يركّز على تزكية باطنه وتحسين سريرته، فذلك كفيلٌ بأن يفيض على ظاهره تلقائيًا نورًا وهيبةً وصدقًا. وإذا كان الجوّ الذي نخلقه هو ظلّ أرواحنا، فمن الحكمة أن نجتهد في تهذيب تلك الأرواح وصقلها بمحبة الحقّ والخير والجمال. وحينها فقط سنخلق حولنا عالمًا صغيرًا يشبهنا، ونساهم في جودة حياتنا وحياة الآخرين من حولنا، فيه من السكينة بقدر ما فينا من طمأنينة، وفيه من النور بقدر ما فينا من إشراق. وكما قال أحد الحكماء: “النور الذي في داخلك سيهدي من حولك، فلا تشغل نفسك بتلميع المصباح بل بملء الزيت” – أي لا تركض خلف بريق الصورة بل غذّ جوهرك بالصدق والفضيلة، يتكفّل الله بالباقي. إنّ صدق الروح هو الطريق الأضمن لانتشار نورها، وهو ما يميّز الإنسان الجيّد حقًا؛ جوهرٌ حقيقي يفيض صدقه في كل نفس يشاطرها الحياة.