خاص – الوئام
تواجه السياسة الخارجية الأوروبية اليوم مجموعة من التحديات المعقدة التي تعكس فجوة كبيرة بين الطموحات الاستراتيجية للاتحاد الأوروبي والقدرة الفعلية على تحقيقها.
وفي ظل دور أوروبا المتزايد كلاعب رئيسي في العديد من القضايا الدولية، يظهر تباين واضح بين التزاماتها الخارجية وبين قدرتها العسكرية والسياسية على الوفاء بتلك الالتزامات.
وهذه الفجوة تهدد استقرار القارة وأمنها على المدى البعيد، مما يضع العديد من التساؤلات حول المستقبل السياسي والعسكري لأوروبا في الساحة العالمية.
السياسة الخارجية المتوازنة
في كتابه “السياسة الخارجية الأمريكية: درع الجمهورية” الذي صدر عام 1943، جادل الصحفي والمفكر الأمريكي الشهير ليفي لِبمان بأن السياسة الخارجية يجب أن تكون متوازنة. بمعنى أن الالتزامات الخارجية لدولة ما يجب أن تتماشى مع قوتها.
وعندما يحدث فجوة بين الالتزامات والقوة، يصبح هذا التناقض دعوة للمخاطر، حيث لا تكون الطموحات الخارجية مدعومة بالقوة اللازمة.
ويرى لِبمان أن الولايات المتحدة قد خالفت هذا المبدأ تاريخياً، لكن اليوم يبدو أن السياسة الخارجية الأوروبية هي التي تعاني من هذا العجز.
العجز الأوروبي
تتسم السياسات الخارجية الأوروبية بالطموح، لكنها تفتقر إلى القدرة الفعلية على تنفيذ هذه الطموحات أو الدفاع عنها وقت الحاجة. ويبدو أن هذه السياسات تقوم على تصور مثالي للنظام الدولي، وكأن هناك انسجامًا طبيعيًا دائمًا، كما تفترض أن القوة الأوروبية تعتمد فقط على جاذبيتها الناعمة وغير المحدودة، دون إدراك أنها في الواقع مورد محدود يمكن أن يضعف أو ينفد.
يشير لِبمان إلى أن الالتزامات الخارجية لا يمكن الوفاء بها إلا في نهاية المطاف من خلال الاستعداد لخوض الحرب، ما يعني أن امتلاك القوة العسكرية الكافية أمر ضروري إما لردع الحرب أو لتحقيق النصر فيها إذا اندلعت. لكن أوروبا اليوم تفتقر إلى هذه القدرة، ولهذا وصف لِبمان سياستها الخارجية بأنها مفلسة.
التدهور العسكري في أوروبا
منذ أواخر الثمانينات، انخفضت الإنفاقات العسكرية في معظم دول الاتحاد الأوروبي بشكل حاد، حيث بلغ متوسط الإنفاق بين 2014 و2018 نحو 1.3 % من الناتج المحلي الإجمالي، وهو معدل ضئيل للغاية.
وتشير مجلة فورين بولسي إلى أن سنوات من نقص الاستثمار في الدفاع تعني أن حتى الزيادة البطيئة في الإنفاق لن تتمكن من معالجة الضعف العسكري الضخم الذي نشأ. وبالتالي، تواجه أوروبا فجوة عسكرية حادة، ما يعزز من صعوبة تعزيز الأمن الوطني والسيطرة على النزاعات.
السياسة الخارجية المفلسة
تُخلّف السياسة الخارجية المفلسة آثارًا واضحة على المكانة الجيوسياسية للقارة الأوروبية. أول هذه الآثار يتمثل في إثارة توترات داخلية عميقة؛ فقد أشار لِبمان إلى أن السياسة الخارجية غير المتوازنة تُولّد انقسامات داخلية وتُغذي صراعات استراتيجية متعارضة داخل المجتمع.
وبما أن المجتمعات تميل إلى التوحد خلف سياسات واقعية ومتزنة، فإن كثيرًا من الخلافات الحالية في أوروبا بشأن السياسة الخارجية تعود في جوهرها إلى عجز القارة عن تنفيذ التزاماتها الدولية. وتنعكس هذه الانقسامات حتى في قضايا ثانوية، مثل البيئة أو الثروة السمكية، مما يزيد من تعقيد المشهد السياسي الأوروبي.
التهديدات المتزايدة
الأثر الثاني للسياسة الخارجية المفلسة هو أنها تُغري بالعدوان. فعندما تُطلق الدول التزامات خارجية دون أن تمتلك القوة اللازمة لتنفيذها، تبدو هذه الالتزامات مجرد خدعة يمكن أن يستغلها الخصوم. وبهذا تضعف الدولة من الداخل، بينما تشجع في الوقت نفسه أعداءها على اختبار مدى صلابتها الدفاعية.
وغالبًا ما تؤدي هذه السياسات إلى نشوب الحروب، إذ تسعى القوى المنافسة إلى تحدي القدرات العسكرية للدول التي تبدو غير مستعدة.
الدور الأمريكي في تأمين أوروبا
على مدار الثلاثين عامًا الماضية، بدا أن أمن أوروبا لم يتأثر فجأة بفجوة قدراتها العسكرية، وذلك بفضل الدور الذي لعبته الولايات المتحدة كضامن لأمن القارة.
منذ حروب يوغوسلافيا في التسعينيات وحتى حرب ليبيا في 2011، كانت الولايات المتحدة حاضرة لتؤمن الحدود الأوروبية وتوفر الدعم العسكري.
أمن أوروبي غير مكتسب
رغم ضعف قدراتها الدفاعية، لا تزال أوروبا تنعم بالأمان، لكن هذا الأمان لا ينبع من قوتها الذاتية، بل من المظلة الأمنية الأمريكية، فيما يُعرف بـ”الأمن غير المكتسب”، أي الاعتماد على قوة خارجية لحماية الداخل دون جهد ذاتي يُذكر.
تجربة الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر تسلط الضوء على إشكالية هذا النوع من الأمن. حينها، كانت أمريكا منخرطة في التزامات خارجية تمتد من نصف الكرة الغربي إلى الفلبين، لكنها لم تمتلك القوة الوطنية الكافية لدعم هذه الالتزامات.
ومع ذلك، لم تواجه تهديدات خارجية جدية، لأن القوى الأوروبية كانت تسيطر على البحار وتوفّر توازنًا يحمي المصالح الأمريكية بشكل غير مباشر.
هذا الواقع عزز شعورًا لدى الأمريكيين بأن أمنهم نتيجة طبيعية لتفوقهم الأخلاقي، وليس لاعتبارات استراتيجية أو دعم خارجي.
الخطر الفكري لـ”الأمن غير المكتسب” في أمريكا
هذا “الأمن المجاني” كان له تأثير سلبي على الوعي الاستراتيجي الأمريكي. فمع اقتراب الحرب العالمية الأولى، بدأ الأمريكيون في إهمال قضايا الأمن القومي، واعتُبرت السياسة الأمنية مسألة ثانوية بل و”دونية”.
ولولا صدمة الحرب العالمية الثانية وتحديات الحرب الباردة، لما أدركت الولايات المتحدة خطورة هذا التراخي الفكري. فقد كان الإيمان الساذج بأن الأمان ينبع من المكانة الأخلاقية لا من القوة الفعلية، وهمًا مكلفًا.
الوهم الأوروبي بالأمان الأخلاقي
وبالمثل، ومع تقدم المشروع الأوروبي في مجالات التوحيد السياسي والاقتصادي، بدأ الأوروبيون يعتقدون أن أمنهم هو ثمرة طبيعية لتفوقهم الأخلاقي. كانوا يرون أن السلام في القارة نابع من مسار تدريجي نحو التعاون، لا من الحماية العسكرية الأمريكية. لكن هذا الاعتقاد يخفي حقيقة أن أوروبا كانت وما زالت تعتمد على القوة الأمريكية لتوفير الأمن.
ومن هنا، فإن تصاعد التحديات الدولية يهدد بكشف هذا الوهم، ما يُنذر بمستقبل أكثر هشاشة إن لم يُصحَّح هذا التصور.