تسير المملكة العربية السعودية بخطى متسارعة نحو التحول إلى مجتمع غير نقدي، مدفوعة بازدهار قطاع التقنية المالية (الفنتك)، وارتفاع إقبال المستهلكين على الخدمات الرقمية، وبيئة تنظيمية نشطة تدعم الابتكار والتوسع.
من مراكز التقنية في الرياض إلى المتاجر الصغيرة في القرى النائية، تشهد المملكة تحوّلًا واسع النطاق من التعاملات النقدية التقليدية إلى المدفوعات الرقمية، في مشهد يعكس روح “رؤية السعودية 2030” التي جعلت من التحول الرقمي ركيزة أساسية للنمو الاقتصادي.
قال خالد الشريف، الرئيس التنفيذي لشركة عبد اللطيف جميل للتمويل، لصحيفة “عرب نيوز” “النموذج المصرفي القائم على الفروع والتعاملات النقدية يتحول إلى عالم من الخدمات المصرفية عبر الهاتف المحمول، والذكاء الاصطناعي، والمصرفية المفتوحة، والحلول الرقمية للتمويل”. وأضاف: “هذا التحول يمثل فرصة ذهبية للمؤسسات المالية لإعادة التفكير في نماذج أعمالها وتبنّي النهج الرقمي كخيار أول للبقاء في دائرة المنافسة”.
طفرة الفنتك
حتى عام 2023، بلغ عدد شركات التقنية المالية في المملكة 216 شركة، متجاوزًا المستهدف البالغ 150 شركة بنسبة 44%. كما تجاوز عدد الوظائف المباشرة في القطاع 6,500 وظيفة، وهو ما يزيد على ضعف التوقعات السابقة.
وشهد الاستثمار في الشركات الناشئة في مجال الفنتك قفزة كبيرة، إذ تضاعف حجم رأس المال الاستثماري 6 مرات خلال عام واحد، وبلغت قيمة التمويل 2.5 مليار ريال (نحو 666 مليون دولار) عبر 10 جولات تمويلية.
ويتوقع أن تصل الأصول المدارة في قطاع الفنتك السعودي إلى 64 مليار دولار خلال عام 2024، ما يعكس زخمًا متسارعًا. ويقول عماد قدورة، الشريك في شركة PwC الشرق الأوسط: “قطاع الفنتك في المملكة مرشح لنمو سريع، مدفوعًا بزيادة الاعتماد على المصرفية الرقمية، ووجود شريحة شبابية بارعة تقنيًا، ودعم حكومي متواصل ضمن رؤية 2030”.
ثورة المصرفية الرقمية
يخضع القطاع المصرفي في السعودية لتحول جذري، مع بروز بنوك رقمية بالكامل وخدمات موجهة للجوال، ما يعيد تعريف العلاقة بين العملاء والبنوك.
بفضل التركيبة السكانية الشابة والمرتبطة تقنيًا، ارتفع الطلب على الخدمات المصرفية السلسة، إذ تستخدم البنوك السعودية الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات لتقديم خدمات فائقة التخصيص. كما تساعد هذه الابتكارات على الوصول إلى الفئات الأقل حظًا، وتسهل فتح الحسابات والحصول على التمويل وإدارة الشؤون المالية الشخصية.
ويؤكد الشريف: “تحقيق الشمول المالي في مجتمع غير نقدي أمر بالغ الأهمية”، مشيرًا إلى أن منصات الإقراض الرقمية والتقييم الائتماني البديل والخدمات المصرفية عبر الهاتف تساهم في سد الفجوة.
المدفوعات عبر الجوال
شهدت المدفوعات الإلكترونية في المملكة طفرة كبيرة، مع انتشار حلول مثل stc pay وApple Pay وMada Pay، حيث باتت التعاملات الرقمية تشمل المشتريات اليومية ودفع الفواتير وحتى المطاعم.
وبحسب الشريف، بلغت نسبة المدفوعات الإلكترونية 70% من جميع التعاملات الاستهلاكية في قطاع التجزئة عام 2023، مقارنة بـ62% في 2022، ما يعكس تغيرًا جوهريًا في سلوك المستهلكين.
ويعزز هذا التحول تعاون القطاع الخاص وجهود البنك المركزي السعودي (ساما)، الذي يسعى إلى رفع نسبة التعاملات غير النقدية إلى 80% بحلول عام 2030 – وهي نسبة تبدو قريبة المنال.
البلوكتشين والمصرفية المفتوحة
تخوض البنوك السعودية وشركات الفنتك تجارب متقدمة باستخدام تقنية البلوكتشين داخل بيئات تنظيمية تجريبية أطلقتها “ساما”، تتيح اختبار الابتكارات دون الإخلال بالأنظمة. وقد جذب هذا النموذج اهتمام شركات عالمية ومستثمرين إقليميين.
كما تلعب المصرفية المفتوحة دورًا محوريًا، إذ تتيح تبادل البيانات المالية بين البنوك ومزودي الخدمات من الأطراف الثالثة، ضمن آليات آمنة وبموافقة العملاء.
وقال مراد، شريك أول في شركة “Global Ventures”: “ما يميز السعودية هو نهجها التنظيمي التعاوني والمتقدّم. بيئات مثل ‘الحاضنة التنظيمية’ التي أطلقتها ساما وفنتك السعودية توفر أرضية آمنة لاختبار الحلول الجديدة”.
النمو والشمول المالي
يتجاوز التحول نحو مجتمع غير نقدي حدود الراحة والسرعة، ليشمل أبعادًا اقتصادية واجتماعية عميقة. فمن خلال توسيع نطاق الوصول إلى الخدمات المالية، تعمل المملكة على تعزيز الشمول المالي ودمج الفئات غير المخدومة سابقًا.
ويشير مراد إلى أن الابتكار في الفنتك يسهم في سد هذه الفجوة، مستشهدًا بتجربة “حقبة”، وهي منصة حديثة أطلقت لتحديث نموذج “الجمعية” التقليدي للادخار الجماعي، وجعله أكثر أمانًا وسهولة عبر التطبيقات الذكية.
كما تلعب المدفوعات الرقمية ومنصات الإقراض البديلة دورًا في تمكين رواد الأعمال من الحصول على التمويل وتوسيع أعمالهم. ومع تنامي منظومة الفنتك، يجذب السوق السعودي المزيد من المواهب ويوفر فرص عمل ويعزز مكانته كمركز مالي إقليمي.
الأمن السيبراني وتحديات المستقبل
رغم التقدم الكبير، تبقى تحديات الأمن السيبراني قائمة، إذ تتزايد الحاجة لحماية التعاملات الرقمية وتعزيز ثقة المستهلك.
يقول الشريف: “نُطبق أعلى معايير الأمان، من التشفير المتقدّم إلى أنظمة كشف الاحتيال بالذكاء الاصطناعي وتوثيق الهوية المتعدد”، مؤكدًا أهمية الحذر من المخاطر المصاحبة.
من جهته، يضيف مراد: “البيئة التي تسهّل السرعة والمرونة في المدفوعات الرقمية قد تكون أيضًا مدخلًا للهجمات السيبرانية، ما يستدعي تعزيز بنية الأمان الرقمي”.
وفيما يُعد تطوير الكفاءات الرقمية والتوعية المالية أمرين حاسمين، يرى الخبراء أن القطاع المالي بحاجة إلى استراتيجيات طويلة الأمد، واستثمارات في تدريب الكوادر، وتعاون وثيق مع الجهات التنظيمية لضمان الاستقرار.
نحو اقتصاد رقمي أولًا
يرى المراقبون أن التحول السعودي نحو اقتصاد غير نقدي ليس مجرد تقدم تقني، بل حجر زاوية في التحول الاقتصادي والاجتماعي الأوسع.
يختم مراد: “التحول إلى مجتمع غير نقدي هو رافعة للنمو الاقتصادي، والكفاءة التشغيلية، والشمول المالي. والمملكة تبني اقتصادًا رقمياً أولاً يتسم بالكفاءة والشمولية والمرونة، ما يجعلها نموذجًا إقليميًا يُحتذى به في مستقبل المال”.