الباحث البروفيسور تركي بن عبدالمحسن بن عبيد
في زمنٍ تتقاذف فيه المجتمعات موجات التطرف والاستقطاب، بات الاتزان الفكري لا مجرد فضيلة، بل ضرورة وجودية. لقد أصبحنا نعيش في عالم سريع الانفعال، تتصدر فيه المواقف الحادة والآراء المطلقة، بينما يُنظر إلى الاعتدال أحيانًا كنوع من التردد أو الضعف. غير أن الحقيقة أن الاتزان الفكري، كما أراه، هو أرقى أشكال النضج الإنساني، وأعمق تعبير عن الوعي المتكامل.
الاتزان الفكري ليس منطقة رمادية بين الأبيض والأسود، بل هو اختيار واعٍ للوقوف في منطقة النور، حيث يمكن رؤية الحقائق من زوايا متعددة. هو توازن لا يتجاهل العاطفة، لكنه لا يسمح لها بالهيمنة. هو احترام للاختلاف، دون الوقوع في فخ النسبية المطلقة. وهو قبل كل شيء، قدرة على الإنصات، والتفكير، والتصرف بروح مسؤولة.
في التراث الإسلامي، نجد هذه الفلسفة واضحة في مفهوم “الوسطية” الذي وصف به القرآن الأمة الإسلامية، بينما تحدّث أرسطو عن “الوسط الذهبي” كفضيلة تُجنب الإنسان الإفراط والتفريط. ورغم تباعد الزمان والمكان بين هذين المرجعين، إلا أن الرسالة واحدة: الاتزان هو أساس الاستقامة.
لكن السؤال الذي يؤرقني ككاتب ومراقب: لماذا بات الاتزان الفكري عملة نادرة في أيامنا؟
ربما لأن العالم اليوم يدفع الناس نحو الحواف. منصات التواصل تكافئ الصخب لا الحكمة، وتُبرز الصوت العالي لا الحُجة المتزنة. الأيديولوجيات المتطرفة تستقطب العقول الشابة عبر شعارات جاهزة، بينما يُترك التفكير النقدي وحيدًا، بلا حماية كافية من التعليم أو الإعلام.
هنا تكمن خطورة الأمر. فغياب الاتزان لا يهدد الفرد فقط، بل المجتمع بأسره. إذ لا سلام بلا اعتدال، ولا تنمية بلا عقلانية، ولا استقرار دون القدرة على رؤية الصورة كاملة.
إننا بحاجة ملحّة لإعادة بناء منظومتنا الفكرية على أسس الاتزان: أن نُربّي أبناءنا على النقد لا على النقل، على الحوار لا على الإقصاء، على القيم لا على الغرائز. نحتاج إلى إعلام لا يحرّض بل يُعلّم، وإلى مناهج تزرع في العقول بذور الشك البنّاء لا الإجابات الجاهزة.
وقد يبدو الطريق إلى الاتزان صعبًا، لكنّه ليس مستحيلاً. يبدأ من التأمل في الذات، ومن الاعتراف بأننا – مهما بلغنا من معرفة – معرضون للخطأ والانحياز. الاتزان لا يعني الثبات على موقف، بل يعني الانفتاح على مراجعة هذا الموقف حين تظهر معطيات جديدة. إنه، ببساطة، شجاعة التفكير.
في زمن الحروب الثقافية والانهيارات النفسية، يصبح الاتزان الفكري طوق نجاة. ليس رفاهية فكرية، بل وسيلة للبقاء الإنساني. فمن دون توازن بين العقل والعاطفة، بين الذات والآخر، بين المصلحة الخاصة والصالح العام، لا يمكن بناء مجتمعات تستحق المستقبل.
أؤمن أن الاتزان ليس فقط فلسفة فكرية، بل موقف أخلاقي. هو تعبير عن احترام الإنسان لنفسه ولغيره، وعن إيمانه العميق بأن الحقيقة لا تقف على طرف واحد من الطيف، بل تتشكل في المساحة الفاصلة بين النقيضين.
المراجع:
– القرآن الكريم، سورة البقرة، الآية 143.
– أرسطو “الأخلاق النيقوماخية”.
– ابن رشد “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال”.