أحمد الدليان
في مدينةٍ اعتادت أن تكتب التاريخ لا أن تقرأه، وفي قلب الرياض حيث النبض السعودي يتسارع نحو المستقبل، انبثقت “ديوانية القلم الذهبي” كمشروعٍ ثقافي فريد، يَجمع بين رصانة الفكر وجماليات الأدب، بين عمق الهوية وانفتاح الرؤية، لتغدو أكثر من صالونٍ ثقافي، بل مرآةً حضاريةً لصورة المملكة المتجددة، ومنصةً تصوغ بالغد أقلام اليوم.
الرياض.. مدينة تصنع من الثقافة روحًا للنهضة
منذ أن أطلقت المملكة رؤيتها الطموحة 2030، تَحوّلت الثقافة من مجال ترفيهي إلى محورٍ استراتيجي في بناء الإنسان وتشكيل الوعي الوطني. فالثقافة اليوم هي أداة للتأثير وصياغة الصورة الذهنية للمجتمع، ورافعة لنهضة مستدامة لا تقتصر على الاقتصاد والبنية التحتية، بل تمتد إلى الفكر واللغة والخيال.
وقد كانت الرياض، بصفتها العاصمة ومركز القرار، نقطة الانطلاق المثلى لهذه التحولات، ومنها خرجت مبادرات نوعية كان من أبرزها “ديوانية القلم الذهبي”، كجسر بين الماضي والحاضر، وبين المحلّي والعالمي.
الولادة الرمزية: من جائزةٍ إلى فضاء يُنبت الكلمة ويحتفي بالفكر
انبثقت فكرة ” ديوانية القلم الذهبي ” امتدادًا لجائزة “القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيرًا “، التي أطلقها معالي المستشار تركي آل الشيخ، رئيس مجلس إدارة هيئة الترفيه، بوصفها مبادرة رائدة تُكرّم الكلمة القادرة على صناعة التأثير، وتُعلي من شأن الأدب الذي لا يكتفي بالجمال بل يمضي نحو العمق والتغيير. وقد جاءت هذه الجائزة في سياق وطنيّ يتبنّى فيه قادة المملكة العربية السعودية، وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وسمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ـ حفظهما الله ـ، نهجًا واضحًا في دعم الثقافة وتمكين الإبداع، إدراكًا منهم أن صناعة الإنسان تبدأ من بناء وعيه وفكره.
لكن الرؤية لم تتوقف عند لحظة الاحتفاء، بل تجاوزتها إلى مرحلة التمكين المستدام، حيث تحوّلت الجائزة من حدثٍ سنوي إلى فضاءٍ ثقافي دائم، فكانت «ديوانية القلم الذهبي» بمثابة ولادة جديدة للكلمة، ليس بوصفها مكرَّمة فقط، بل بوصفها مُمكَّنة، ومؤثرة، وجزءًا من مشروع وطني شامل لصناعة الوعي. لقد أراد معالي المستشار أن تكون الكلمة حاضرةً في المشهد الثقافي حضورًا فعّالًا، تُكتب لا لتُنسى، بل لتُخلّد، وتُشكّل ضمير المجتمع وتفتح نوافذ الأمل في زمنٍ تعصف فيه الضوضاء وتكاد تغيب فيه المعاني.
ويأتي هذا التوجّه متناغمًا مع مستهدفات رؤية السعودية 2030، التي جعلت من الثقافة ركيزة أساسية في بناء مجتمع نابض بالحياة، منفتح على العالم، معتزّ بجذوره، ومتحفّز للإبداع. وتُجسد الديوانية واحدة من ثمار هذه الرؤية، حيث الانتقال من الاحتفاء بالمحتوى إلى صناعته، ومن تكريم الرموز إلى بناء أجيالٍ جديدة من الكتّاب والمبدعين.
إن ما قدّمه معالي المستشار تركي آل الشيخ عبر هذه المبادرة، هو استجابة عميقة لتوجيهات القيادة الرشيدة في جعل الثقافة قوة ناعمة تخدم الوطن، وتُعزّز حضوره العالمي، وتُسهم في تشكيل صورة مشرقة للمملكة بوصفها مركزًا للإبداع العربي الحديث، ومنارةً للفكر الناضج والكلمة المؤثرة
حيّ السفارات… حين تتحوّل الجغرافيا إلى رسالة
اختيار “حيّ السفارات” بالرياض لم يكن تفصيلاً عابرًا، بل عنصرًا دلاليًا يحمل رمزية عميقة. فهذا الحي الذي يُجسّد نقطة التقاء البعثات والثقافات، بات المسرح الأمثل لميلاد ديوانية تخاطب الداخل بلغة الجذور، وتُحاور الخارج بمنطق الانفتاح والتسامح.
في هذا المكان، تتحدث الثقافة السعودية عن نفسها دون وسيط، فتُقدّم نموذجًا لهوية لا تذوب، بل تتجدّد؛ لا تنغلق، بل تتّسع؛ لا تُقلّد، بل تُبدع.
الديوانية… حيث تُزرع الفكرة، وتُروى الكلمة، ويُزهِر الإبداع
ليست «ديوانية القلم الذهبي» محطةً عابرة في خارطة الفعاليات، ولا موسمًا أدبيًا ينقضي بانقضاء لحظته، بل هي نواةُ وعيٍ متجدّد، وبنيةٌ ثقافية تنبض برؤية تتجاوز الاحتفاء إلى التأسيس. إنها تؤمن أن الكلمة ليست مجرد زينة تُعلّق على جدار اللغة، بل طوبة في جدار الوعي، وبذرة إذا سُقيت بالإبداع أنبتت مجتمعًا يفكّر ويكتب ويرى.
في ركن معرض الكتاب والسيناريو، لا تُعرض الكتب فحسب، بل تُعاش، حيث تتلاقى الصفحات مع الشاشة، والنص مع العدسة، في حوارٍ بصري سرديّ يؤكّد أن الكلمة حين تُكتب جيدًا، يمكن أن تُرى، ويُصغى لصداها في كل فن. أما منبر الحوار الأدبي والفكري، فهو مساحة تُستنبت فيها الأسئلة لا الإجابات، وتُكرَّم فيها التعدّدية، حيث يلتقي الكتّاب والمفكرون في جلساتٍ تعيد للأفكار وهجها، وتغذّي الفكر الحرّ بعيدًا عن ضجيج القوالب. وفي ركن ورش الكتابة والقراءة النقدية، تتشكّل البدايات، وتُشحذ الأقلام الفتيّة بأدوات الإبداع لا كمجرد متلقّين، بل كروّادٍ يُعاد عبرهم تشكيل الخريطة الأدبية للمستقبل
حين تغدو الكلمة درعًا، وتغدو الهوية جسرًا
في زمنٍ باتت فيه الكلمة أكثر نفوذًا من السلاح، والتأثير الثقافي أعمق من ضجيج الخطابات، تتعامل المملكة مع الثقافة كعمقٍ استراتيجي، تبني به حاضرها، وتُمهّد به لغدها.
وهنا، تأتي «ديوانية القلم الذهبي» كأحد تجليات هذه الرؤية، فتمثل المملكة بأدبها وفكرها، وتُعيد الاعتبار للكتابة كقوة حضارية تُخاطب الداخل وتُبهر الخارج، وتصنع من الحرف مشروعًا وطنيًا ذا امتداد إنساني واسع.
المرأة والجيل الجديد… حضورٌ جوهري لا رمزي
من أبرز ما يُحسب للديوانية، أنها لا تحتفي بالنخبة فقط، بل تسعى لتمكين المرأة والجيل الجديد من خلال إدماجهم الحقيقي في صلب الفعل الثقافي.
ففي فعالياتها الأخيرة، برزت أصوات نسائية لامعة في مجالات الرواية والنقد والصحافة الثقافية، إلى جانب كُتّاب شباب كانت لهم مشاركات لافتة، لا كمُتحدّثين فحسب، بل كمساهمين فاعلين في صياغة المحتوى وتوجيه الخطاب.
ديوانية القلم الذهبي… خطوةٌ في مسيرة كبرى
الحديث عن ” ديوانية القلم الذهبي” هو حديث عن مشروع ثقافي سعودي يتنامى ويتعمّق بمرور الزمن. مشروعٌ لا يكتفي بخلق مساحة ثقافية راقية، بل يؤسّس لوعي جديد تُكتب فيه الثقافة لا على الورق فقط، بل في سلوك الناس، وفي لغة الحوار، وفي وجدان المدن.
حيث الكلمة تصنع المجد
في زمنٍ تشتدّ فيه الحاجة إلى خطاب عقلاني وفكر متّزن، تؤكّد «ديوانية القلم الذهبي» أن المملكة لا تُراهن على البنية التحتية وحدها، بل على فكر الإنسان، وروح المثقف، وقيمة الكلمة.
فحين يمسك المثقف قلمه بصدق، ويكتب من منبع وطنيته وهمّه الحضاري، يصبح أكثر تأثيرًا من الضجيج، وأعمق أثرًا من الخطابة، وأشدّ وفاءً من الذكرى.
وهكذا، تكتب المملكة مستقبلها الثقافي عبر “ديوانية القلم الذهبي”، لا كحدثٍ موسمي، بل كمنصة متجددة تُجسّد الحلم السعودي بكامل أناقته وإبداعه.