رسخت المملكة العربية السعودية مكانتها كوجهة استثمارية محورية وجاذبة للشركات الأمريكية، في تحول اقتصادي لافت يرتكز على “رؤية 2030” الطموحة وسلسلة من الإصلاحات الهيكلية التي فتحت آفاقًا واسعة للتعاون.
هذا الاهتمام المتزايد تُوّج بانعقاد منتدى الاستثمار السعودي الأمريكي في الرياض، الذي لم يكن مجرد منصة لتوقيع الاتفاقيات، بل شاهدًا على عمق العلاقات الاستراتيجية والإمكانات الهائلة للشراكة بين البلدين، ونجاح المملكة وقيادتها الرشيدة.
وقد حضرت هذا الحدث الهام شخصيات رفيعة المستوى من الجانبين، بينهم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب وكبار التنفيذيين في قطاعات الذكاء الاصطناعي والدفاع وتصنيع الرقائق الإلكترونية.
خلال كلمته في المنتدى، لم يخفِ الرئيس الأمريكي دونالد ترمب إعجابه بالتحولات الكبيرة التي تشهدها المملكة، موجهًا إشادة خاصة لصاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، قائلًا: “لقد قمت بعمل مذهل”.
وأكد ترمب أن السعودية، خلال السنوات الماضية، “أثبتت خطأ جميع المنتقدين تمامًا”، معلنًا عن “فجر يوم جديد مشرق” ينتظر شعوب المنطقة بفضل هذه الرؤية التحويلية، مضيفًا أن العلاقات بين البلدين “أقوى من أي وقت مضى وستبقى كذلك”.
وفي خطوة عكست التنسيق الوثيق بين الرياض وواشنطن، أعلن ترمب عن قراره رفع العقوبات عن سوريا، مشيرًا إلى أن هذا القرار جاء بعد مباحثات مع ولي العهد السعودي.
من جانبه، أكد ولي العهد الأمير محمد بن سلمان أن التعاون الاستراتيجي مع الولايات المتحدة يهدف إلى تحقيق منافع مشتركة ودعم مسيرة التنمية والتنويع الاقتصادي في المملكة، تماشيًا مع مستهدفات رؤية 2030. وقد برزت هذه الرؤية كنقطة جذب قوية للشركات الأمريكية، لما توفره من فرص واعدة في قطاعات حيوية متعددة.
وأشار سموه إلى أن الاتفاقيات والبرامج والمشاريع المشتركة تستهدف رفع نسب التوطين في صناعات المستقبل ونقل المعرفة إلى داخل المملكة، وتمكين الكوادر الوطنية.
شراكات متعددة الأوجه تدفع عجلة النمو
تتجلى الشراكة السعودية الأمريكية في قطاعات متنوعة، تهدف جميعها إلى بناء اقتصاد مستدام وقائم على المعرفة. ففي مجال الطاقة الجديدة والمتجددة، يسعى البلدان إلى توفير طاقة مستدامة بتقنيات متقدمة، مما يسهم في تخفيض تكاليف الطاقة على المدى الطويل وخلق فرص عمل نوعية للسعوديين في المجالات التقنية المرتبطة بتشغيل المحطات النووية وصيانتها، بالإضافة إلى التدريب والتأهيل في الهندسة النووية والاستخدامات السلمية للطاقة النووية.
ويشارك البلدان في مبادرات دولية تتعلق بالطاقة وتغير المناخ، مثل منتدى الحياد الصفري للمنتجين، ومبادرة التعهد العالمي للميثان.
وفي قطاع الطيران، يهدف التعاون الثنائي إلى تمكين شركات الطيران السعودية من مواكبة التطورات العالمية المتسارعة، وتقديم خدمات نقل جوي رفيعة المستوى، وتوسيع نطاق ربط المملكة بالعالم، مع توقعات طموحة بوصول حجم الشحن الجوي إلى 4.5 مليون طن بحلول عام 2030، مما يدعم التبادل التجاري والتنمية الاقتصادية.
أما القطاع الصحي، فيشهد تعاونًا مكثفًا يركز على نقل المعرفة في مجال التقنيات الطبية المتقدمة، وتطوير الخدمات الصحية الرقمية عبر برامج سحابية متطورة، واستحداث أنظمة وأجهزة حديثة، مثل استخدام البروتون كعلاج بديل وآمن لوظائف الكلى، وتسهيل الوصول إلى خدمات غسيل الكلى البريتوني، وتعزيز جودة الرعاية الصحية الرقمية والافتراضية.
وتحظى المجالات الأمنية والدفاعية باهتمام كبير، حيث تسهم الشراكة في تطوير قدرات المملكة العسكرية لردع التهديدات القائمة وتعزيز أمنها واستقرارها الإقليمي.
كما يركز التعاون على تنمية القدرات البشرية في مجال التصنيع والتطوير العسكري، وتوطين الوظائف ونقل المعرفة في الصناعات العسكرية، بهدف تحقيق المملكة لتصنيع 50% من احتياجاتها العسكرية محليًا بحلول عام 2030.
التقنية والذكاء الاصطناعي.. محركات المستقبل
ويحتل قطاع التقنية والذكاء الاصطناعي موقع الصدارة في الأجندة الاستثمارية المشتركة، حيث من المتوقع أن تسهم الشراكة الاستراتيجية في هذا المجال الحيوي في خلق أكثر من 22 ألف وظيفة نوعية في المملكة، وزيادة الناتج المحلي بقيمة 24 مليار دولار بحلول عام 2030.
ويشمل ذلك دعم بناء وتدريب المواهب الرقمية السعودية من خلال أكاديميات تابعة لكبرى الشركات العالمية مثل أبل، وجوجل، وأمازون، ومايكروسوفت، مما يعزز النمو المطرد في عدد الوظائف بالقطاع التقني، والذي شهد قفزة من 150 ألف وظيفة في عام 2018 إلى 381 ألف وظيفة في عام 2024.
وقد أكد وزير الاتصالات وتقنية المعلومات المهندس عبدالله بن عامر السواحة، أن المملكة استقطبت استثمارات أمريكية تتجاوز 13 مليار دولار في عامي 2024 و2025، تمثل أكثر من 90% من إجمالي الاستثمارات الدولية في الذكاء الاصطناعي ومراكز البيانات والخدمات السحابية.
وأشار إلى أن الشراكة السعودية الأمريكية في مجال الابتكار أثمرت عن مشروعات نوعية في الذكاء الاصطناعي، وتقنيات النانو، والطاقة النظيفة، من خلال تأسيس 14 مركز تميز بالتعاون مع جامعات أمريكية رائدة.
ولم يقتصر الاهتمام الأمريكي على الإطار الحكومي، بل امتد ليشمل عمالقة التكنولوجيا. فقد أعلن رجل الأعمال البارز إيلون ماسك، خلال مشاركته في منتدى الاستثمار، عن موافقة رسمية لتشغيل خدمة الإنترنت الفضائي “ستارلينك” التابعة لشركته “سبيس إكس” في قطاعي الطيران والملاحة البحرية داخل السعودية.
كما كشف ماسك عن طموحات لإدخال سيارات “تسلا” ذاتية القيادة إلى السوق السعودية وعرض روبوتات “أوبتيموس” البشرية على كبار المسؤولين.
وفي دلالة أخرى على الثقة في السوق السعودية، أعلن المدير التنفيذي لشركة “نفيديا”، جنسن هوانغ، عن صفقة لتزويد شركة “هيومن” السعودية بأكثر من 18 ألف شريحة ذكاء اصطناعي حديثة.
اقتصاد الفضاء والخدمات اللوجستية.. آفاق جديدة
يمتد التعاون ليشمل مجالات واعدة مثل اقتصاد الفضاء، حيث يعمل البلدان على بحث فرص مشتركة وزيادة المهمات لاستكشافه، وتدريب رواد الفضاء السعوديين للرحلات الطويلة، واغتنام الفرص في تقنيات الفضاء والأقمار الاصطناعية لخدمة البشرية.
ويهدف التعاون الاستثماري أيضًا إلى دعم مستهدفات المملكة في أن تصبح مركزًا لوجستيًا عالميًا يخدم الاقتصاد العالمي، مما يزيد من فرص الاستثمار ودخول الشركات العالمية إلى السوق السعودية، وبالتالي خلق المزيد من الوظائف ونقل المعرفة.
أرقام تعكس قوة الشراكة
تُعد الاستثمارات المشتركة محورًا رئيسيًا في العلاقات الاقتصادية بين البلدين، حيث تمثل المملكة أكبر شريك اقتصادي لواشنطن في المنطقة.
وتقدر فرص الشراكة الإجمالية بنحو 600 مليار دولار، وُقّع منها 300 مليار دولار في المنتدى الأخير. وتُوجه نحو 40% من استثمارات صندوق الاستثمارات العامة السعودي إلى السوق الأمريكية، فيما تنشط حوالي 1300 شركة أمريكية في المملكة.
وتشير البيانات إلى أن حجم التبادل التجاري بين المملكة والولايات المتحدة تجاوز 500 مليار دولار خلال السنوات العشر الماضية.
وحتى عام 2023، بلغ رصيد الاستثمار الأمريكي المباشر في المملكة نحو 54 مليار دولار، مشكلاً بذلك 23% من إجمالي الاستثمارات الأجنبية المباشرة في المملكة.
إن هذه الشراكة الاستراتيجية، التي تمتد لعقود، لا تقتصر على الجوانب الاقتصادية البحتة، بل تشمل أيضًا جهودًا مشتركة لإرساء الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي. وتؤكد الاستثمارات السعودية الضخمة ذات الطابع الاستراتيجي على أنها قرارات مبنية على رؤية طويلة المدى، تضع مصلحة المملكة في المقام الأول، وتستفيد من المناخ الاستثماري الجاذب في الاقتصاد الأمريكي، الأكبر عالميًا.