د. عائشة بنت مفتي القرشي
تواجه المدن الحديثة تحديات متزايدة في إدارة الموارد المائية بسبب النمو السكاني، والتوسع الحضري، وزيادة الإحتياجات المائية مقابل المعروض، لهذا فإن إعادة استخدام المياه المعالجة يعتبر احد الحلول المستدامة لتلبية الطلب المتزايد على المياه، وتعزيز الاستدامة المائية، وتقليل الضغط على أنظمة الصرف الصحي، وتقليل الاعتماد على المياه التقليدية العذبة، والحد من التلوث، ودعم الأمن المائي في المناطق الجافة. وتشير التقديرات إلى أن حوالي 80% من مياه الصرف الصحي في المدن يمكن معالجتها وإعادة استخدامها في أغراض مثل الري الحضري، التبريد الصناعي، أو إعادة تغذية طبقات المياه الجوفية.
تؤكد بعض الدراسات انه في المدن الذكية، والتي تعتمد على التكنولوجيا لتحسين كفاءة البنية التحتية، تُسهم أعادة استخدام المياه المعالجة في تقليل الاعتماد على مصادر المياه العذبة، وتقلل الضغط على الموارد المائية الطبيعية بنسبة قد تصل إلى 50% في بعض المدن، مع تطبيقات في مجال الزراعة بحوالي 70%، وفي الصناعة بحوالي 20%، لذلك من المهم بمكان دمج إعادة الاستخدام في تخطيط المدن الذكية لتحسين إدارة الموارد المائية.
هذا وتُعد سنغافورة نموذجًا رائدًا في إعادة استخدام المياه المعالجة من خلال مشروع NEWater والذي يعالج مياه الصرف الصحي بتقنيات متقدمة ويعيد استخدامها في الصناعة، وإعادة تغذية الخزانات، وقد ساهم هذا المشروع في تلبية حوالي 40% من احتياجات المياه في المدينة، مع تقليل الضغط على أنظمة الصرف الصحي.
كذلك تعمل استراليا على تقليل الاعتماد على المياه العذبة بنسبة 30-40% وذلك من خلال استخدام المياه المعالجة، اما في حالة كاليفورنيا، فقد أدى إعادة الاستخدام إلى تقليل الحمل الهيدروليكي على شبكات الصرف الصحي بنسبة تقارب 25% مقارنة بالأنظمة التقليدية، بالتالي فإن هذه النماذج تثبت كيف يمكن للمدن الذكية دمج التكنولوجيا والتصميم الهندسي لتحقيق الإستدامة المطلوبة.
إن إعادة استخدام المياه المعالجة يحتاج إلى تغييرات جوهرية في تصميم أنظمة الصرف الصحي من خلال تقليل الحمل الهيدروليكي، حيث ان إعادة توجيه المياه المعالجة للاستخدامات غير الشرب يقلل من كمية المياه التي تحتاج إلى تصريف، مما يسمح بتصميم أنابيب ومحطات ضخ أصغر حجمًا، لكن يتطلب الأمر شبكات أنابيب منفصلة لتوزيع المياه المعالجة، مع ضرورة استخدام أنظمة التحكم لضمان جودة المياه المعالجة وسلامة توزيعها، وبالتالي وعلى الرغم من الفوائد، فإن اعادة استخدام المياه المعالجة تواجه تحديات من حيث التكاليف العالية لإنشاء محطات معالجة متقدمة، ومقاومة المجتمع بسبب المخاوف الصحية ونقص الأطر التنظيمية في بعض الدول، ويوثق تقرير للأمم المتحدة حول معالجة مياه الصرف الصحي UN-Water, 2024)) التقدم العالمي في معالجة المياه العادمة وإعادة استخدامها، مشيرًا إلى أن 320 مليار متر مكعب من المياه المعالجة يمكن إعادة استخدامها سنويًا. ويقدم التقرير أمثلة من آسيا وأفريقيا تُظهر تحسين إدارة الموارد المائية بنسبة 20-30%، مع وجود تحديات مثل نقص التمويل والتشريعات، ويبين التقرير انه في عام 2022، أظهرت بيانات من 107 دولة (تمثل 73% من سكان العالم) أن 76% من إجمالي مياه الصرف الصحي تلقت مستوى من المعالجة، لكن 60% فقط تمت معالجتها بأمان (معالجة ثانوية على الأقل) وذلك في 73 دولة فقط، اما مياه الصرف المنزلية: فحوالي 42% من مياه الصرف المنزلية (113 مليار م³) لم تُعالج بأمان قبل تصريفها، وذلك بسبب ضعف أنظمة التجميع (مثل نقص التوصيلات بالمجاري أو خزانات الصرف)، اما فيما يتعلق بمياه الصرف الصناعية فالبيانات محدودة، حيث ان 22 دولة فقط من هذه الدول قد أبلغت انه تمت معالجة 38% من مياه الصرف الصناعية فيها لكن27% منها فقط تمت معالجتها بأمان.
بالتالي فإن المخاوف الصحية وضعف الثقة في المعالجة من قبل الكثير من الناس والذين يشككون في قدرة أنظمة المعالجة على إزالة جميع الملوثات، خاصة عند إعادة استخدام المياه للشرب من التلوث وقد تكون مبررة في حالة انه تم تصريف مياه الصرف غير المعالجة، أو غير المعالجة بأمان تام، مما قد يؤدي إلى تلوث المياه السطحية والجوفية، وبالتالي قد يتسبب ذلك في مخاطر صحية مثل الأمراض المنقولة بالمياه (الكوليرا، الإسهال)، كما ان وجود مواد مثل الأدوية، المواد الكيميائية، والميكروبلاستيك في مياه الصرف يثير قلقًا بشأن سلامتها حتى بعد المعالجة.
من جهة اخرى هناك مقاومة اجتماعية، فهناك عامل نفسي حيث يرفض العديد من الأفراد فكرة استخدام مياه الصرف المعالجة بسبب ارتباطها بمياه المجاري، بالتالي هنالك نقص توعية وقلة معرفة بتقنيات المعالجة المتقدمة مما يجعل الناس متشككين في سلامتها، هذا عدا العوامل الثقافية والدينية في بعض المجتمعات، حيث ان هناك معارضة لإعادة الاستخدام بناءً على المعتقدات أو التقاليد.
هذا ويمكن مواجهة هذه التحديات من خلال تبني تقنيات معالجة متقدمة مثل التناضح العكسي والتعقيم بالأشعة فوق البنفسجية لضمان الأمان، مع حملات توعية لتعزيز قبول المجتمع للمياه المعالجة، والاستفادة من الذكاء الاصطناعي لتحسين إدارة محطات المعالجة، ومراقبة جودة المياه، وتقليل استهلاك الطاقة، وتحسين البنية التحتية من خلال زيادة الاستثمار في أنظمة التجميع والمعالجة، لضمان جودة أعلى للمياه المعاد استخدامها، كذلك من المهم نشر تقارير منتظمة عن جودة المياه المعالجة لزيادة الثقة العامة بها. كما ان الاستخدام التدريجي لهذه المياه من خلال بدء إعادة الاستخدام في تطبيقات مثل الري الزراعي أو التبريد الصناعي، قد يسهل القبول الاجتماعي لها، ويساهم في زرع الثقة في جودة هذه المياه وحسن تقبلها قبل الانتقال إلى الإستخدام المباشر كالشرب والإستخدامات المنزلية الأخرى.
ان إعادة استخدام المياه المعالجة ركيزة أساسية للإدارة المستدامة للموارد المائية في المدن الذكية، حيث تعزز كفاءة استخدام المياه من خلال دمج التقنيات الحديثة والتصميمات الهندسية المبتكرة، بحيث يمكن للمدن مواجهة تحديات ندرة المياه وضمان استدامة بنيتها التحتية، لكن ذلك يتطلب استثمارات في البنية التحتية، وتعاونًا بين القطاعات، وتوعية مجتمعية، وعليه فإن تطوير سياسات تشجع على إعادة استخدام المياه المعالجة في المدن، والاستثمار في تقنيات معالجة فعالة من حيث التكلفة، ودمج أنظمة المراقبة الذكية لضمان جودة المياه وسلامة التوزيع شديد الاهمية لإنجاح هذا الأمر المهم.