العدوى الجميلة

تقرأ الصحف في صباح كل يوم، أو تلقى نظرة خاطفةً على ما وقع نظرك عليه في هاتفك المحمول، فتجد الغريب والأغرب من أحداث العالم وأخبار الناس، تتعجب كيف وصلت المجتمعات إلى هذا الحد من الفوضوية والعشوائية، وتتفكر لماذا بلغ الناس هذا الحد من السلبية والتخلف!

وبينما كنت أقرأ الأخبار في صباح اليوم وقعت عيني على عدد من الأخبار السلبية، التي جعلتني أتفكر في أسبابها وخلفياتها، ثم عادت بي الذاكرة إلى أحد الكتب التي قرأت فيها نصاً ثميناً يلخص حال أولئك الفوضويين ويعلل أسباب تلك السلبية وذلك التخلف.

حيث يقول يحيى ابن عدي: وجب أن يعمل الإنسان فكره، ويميز أخلاقه، ويختار منها ما كان مستحسنًا جميلًا، وينفي ما كان مستنكرًا قبيحًا، ويحمل نفسه على التشبه بالأخيار، ويتجنب كل التجنب عادات الأشرار، فإنه إذا فعل ذلك صار بالإنسانية متحققًا وللرئاسة الذاتية مستحقًا.

نصائحٌ من ذهب لخصها المفكر والفيلسوف يحيى ابن عدي ابتدأها بضرورة إعمال الإنسان لفكره وهو الأمر الذي تحدثت عنه في مقالات سابقة، وركزت عليه كثيرًا كأحد أهم العوامل التي تسهم في تطوير شخصية الإنسان ومعرفة الغاية من وجوده في هذه الحياة.

ثم قال يحيى ابن عدي: "ويميز أخلاقه" والتمييز هنا على حد فهمي هو التمحيص واختيار الأفضل من السلوكيات والتصرفات، بمعنى أن يختار الإنسان أنبل الأخلاق وأفضلها في تعامله مع الناس؛ حتى يصل إلى المرحلة التي تجعل الناس ينظرون إليه كقدوة وهو أمر في غاية الصعوبة؛ حيث يتطلب الالتزام بتعاليم الدين، والتمسك بالمبادئ والقيم، والابتعاد عن مغريات الحياة، وهي صفات من النادر أن تجدها مجتمعةً في شخص واحد إلا من وفقه الله وأنعم عليه بتمامها.

ثم يكمل يحيى ابن عدي حديثه عن الأخلاق ويقول: " ويختار منها ما كان مستحسناً جميلًا، وينفي ما كان مستنكرًا قبيحًا"، وهو تأكيدٌ لما ذكرته في شرحي لمفهوم تمييز الأخلاق، التي تعتمد على اختيار الحسن والنبيل منها والابتعاد عما كان قبيحًا ومستنكرًا؛ لأن ذلك يجعل الناس ينفرون من أصحاب الأخلاق السيئة ويفضلون التواصل مع أصحاب الأخلاق الحسنة.

ثم يكمل ابن عدي نصائحه الجوهرية بقوله: ويحمل نفسه على التشبه بالأخيار، ويتجنب كل التجنب عادات الأشرار، والأخيار هنا هم أصحاب الأخلاق الفاضلة، وعكسهم الأشرار وهم أصحاب الأخلاق السيئة والعادات القبيحة، والتشبه هو محاكاة الشيء وتقليده، بمعنى أن يحاكي الإنسان من يرى خلقه فاضلًا حتى يتعلم ذلك الخلق ويكتسبه، ويتجنب عادات الأشرار لئلا يصير منهم بسبب جلوسه معهم أو تأثره بهم.

ويختم ابن عدي هذه المقولة الرائعة بتلخيص نتيجة تلك المعادلة التي تحدث عنها حينما قال: فإنه إذا فعل ذلك صار بالإنسانية متحققاً وللرئاسة الذاتية مستحقاً، ويعني أن الإنسان عندما يكون ذا خلق فاضل حسن، مبتعداً عن كل صفة سيئة ومجتمع سلبي؛ فهو يكمل معاني الإنسانية السامية ويحقق مبادئ الرئاسة الذاتية، بمعنى أن يكون إنساناً خيراً بمعنى الكلمة، قائداً لغيره ومؤثرًا فيه بحسن خلقه وسمو نفسه.