قارض الكتب

لايبدو أن أحداً عُني بالحديث عن القراءة كألبرتو مانغويل الكاتب الأرجنتيني الذي تحتل مؤلفاته عن هذا الحدث المهم في حياة محبي القراءة المرتبة الأولى من حيث الكثرة وجودة المحتوى أي أنه قدم كماً ونوعاً مالم يفعل أقرانه من كبار المؤلفين حتى أنه بدا في مخيلتي كذلك الرجل الضخم ذو الشعر الأبيض في لوحة الرسام والشاعر الألماني كارل سبيتزويج (قارض الكتب) وهو يقف على سلم خشبي بمواجهه رفوف مُلأت بالكتب ويمسك بكتابين مفتوحين في كلتا يديه ويقرأ منهما بنهم، بينما يخنق ثالثاً تحت أحد إبطيه ورابعاً بين ركبتيه، ولم تتغير تلك الصورة حتى بعد أن رأيته عبر التلفاز مرات عديدة.

وبالرغم من أن مانغويل لم يكن في روايتي (عاشق مولع بالتفاصيل) و (ستيفنسن تحت أشجار النخيل) بذات الأناقة والعنفوان الذين بدا عليهما في (تاريخ القراءة) و (فن القراءة) وكذلك (المكتبة في الليل) حتى أنه حينما تحدث عن النبي محمد ﷺ في مقالة الفن والكفر التي ضمنها كتابه فن القراءة بدا واسع الإطلاع ثري المعرفة أنيق العبارات وكالمنتمي إلى أرض اللا أحد وأستشهد بآيات قرآنية وأحاديث نبوية كمسلم متدين وأثبت ماهو أبعد وأسمى من صناعة الكلمة وحياكة الجمل ومع ذلك فإن قدرته على إشباع نهم القارئ حتى وإن كان من قارضي الكتب تجلت بوضوح في الروايتين كما هي في مؤلفاته الأخرى.

ولكنها على أي حال لم تكن لترتقي إلى مستوى مايتوقعه القارئ الذي أبحر في مؤلفاته عن القراءة كربان سفينة ألفى يجوب المحيطات ويرسو بها على سواحل اليابسة المنتشرة كأضواء منزل ريفي عتيق فلايدع جزيرةً ولا أرخبيلاً إلا أقام على شطئانها مقاماً غير يسير.

مايثبت أن ثمة بون شاسع بين المؤلف والروائي فألبرتو المؤلف الباسق لغةً ووصفاً والحاذق فكراً ومعرفةً لم يستطع أن يقدم روايةً متوسطة المستوى بحجم (مانديل بائع الكتب القديمة) أو (المجموعة الخفية ) للنمساوي ستيفان زفايغ ولم ترتقي رواياته إلى الدرجة التي يصنف بها كروائي مثيل للرائعة ماري شيلي.

وفيما يمكن تصنيف الأخيرين وغيرهما من الروائيين كمؤلفين يمكن تصنيفه هو كروائي وإستثناءه من قاعدة كل روائي هو مؤلف ولكن ليس كل مؤلف روائي نظرياً على أقل تقدير والإبقاء على كل مؤلف تحت طائلة هذا النظرية الأدبية طالما بقي خلف أسوار الرواية.

ومع أن للمؤلفات التي تتحدث عن القراءة غاية نبيلة وهدف سامي وأثر بين على القارئ إلا أن الرواية الجيدة أقدر على إحداث ثورة لاتنتهي، وخلق مناخ تصالحي بين عقل القارئ وبقية جسده فهي تنقاد إليه باسمةً حين يغلق العالم أذنيه غير آبه بسماعه لتضع بين يديه مئات الصور البلاغية وألاف المفردات وتُطلعه على أُخريات الثقافات المنتشرة عبر سبع قارات فتأخذ بتلابيب مخيلته إلى أرض لم تطأها قدماه فلا يقلب أخر صفحاتها إلا وقد تحول إلى شخص أخر، فلا يعود كسابق عهده ولاتعود هي كما كانت قبل قراءتها، ناهيك عما سيطرب له من عذب الكلم وحصيف المقاصد حتى أن الأديب الأريب لايمكن أن يغادر روايةً ما إلا وقد أبقى بين طياتها رائحة إمتنان لكاتبها وطبع قبلة إجلال على جبين أحد شخوصها.

ولذلك كانت ندرة الروائي أو الراوي المتفرد بطرائقه وأدواته كندرة الخيل البلق فلا تكاد تجد بين الكم الهائل من الروائيين من تناهز عبقرية أفونشو كروش على سبيل المثال في خلق الصور البلاغية حتى ليخيل إليك أنه بضعة رواة مجتمعين في راوٍ واحد ولعل في روايته الأشهر ( هيا نشتري شاعراً) والنجاح الذي لاقت دليل قاطع على أن للرواية أثر لايُمحى من ذاكرة القارئ فلربما إستطاع أن يصنع قناعةً ما ويقذف بها إلى أعماق عقلة.

وأستثنى مما ذكرته آنفاً الكتب العلمية لما لمادتها من أثر على تطور ونهضة الإنسان.