المغالطات المنطقية قصة فكر

يبرع أرباب المغالطات المنطقية وشُداتها في إقامة حججهم التي تبدو في ظاهرها منطقية وصحيحة على عكس حقيقتها وعلى النقيض تماماً مماهي عليه وهم ينفذون إلى إقامتها عبر طرائق ومسالك عدة تبدأ بعدم الترابط مروراً بالتحريف ومغالطة القناص وليس إنتهاءً بالحجة الدائرية والتقسيم الخاطئ وهي سبل يمكن للمرء الإحاطة بها عن طريق القراءة المتأنية لبعض شروحاتها ليتأتى له فهمها كما يجب، وبالتالي تجنب ماقد ينصب له ذووها من فخاخ فلايقع فيها.

هذه المغالطات بإعتبارها الإبن الشرعي للقانون الفلسفي القديم ( الإنسان مقياس كل شئ) والذي توال على نقضه فلاسفة كثر كسقراط والإمام الغزالي وغيرهما، قد تكون من أوائل ماظهر فلسفياً على وجه الأرض وهي صنيعة المعلمون الأوائل أو مايسمى بالسفسطائيين الذين ظهروا في منتصف القرن الرابع قبل الميلادي في اليونان القديمة بعد القضاء على الطاغية فراسيبلوس وإقامة المحاكم الإغريقية التي تكونت آنذاك من مئات الأعضاء جلهم من بسطاء القوم تسند إليهم مهمة إصدار الأحكام بناء على مايقدم إليهم من حجج تقوم على المغالطات المنطقية، إنتشرت آنذاك حتى أصبحت سمة مجتمعية صبغت ذلك العهد بألوانها فبدا القادم إلى أثينا حاملاً في عقله شيئاً من البيان والبلاغة كجالب التمر إلى هجر.

وقد كان لنشوء المحاكم وعملها بتلكم الطريقة دور في ظهور الحكماء ( السفسطائيين) الذين كانوا أول من تقاضى أجراً مقابل تعليم أبناء النبلاء كيفية إقامة الحجة أمام لجنة القضاء عبر التلاعب بالألفاظ والكلمات، والصياغة الجيدة لحجة واهية، وهي ماسمي لاحقاً بالمغالطات المنطقية.

ولهم في ذلك قَصص وعبر لعل أبرزها ماكان بين كبير السفسطائيين المعلم بروتاغوراس والذي عرف بأبو المناظرات وبين أحد أبناء النبلاء وهي القصة التي سأروي لضرورة وفائدة معا، إذ برغم طرافتها فهي التي أفرزت مايسمى بحجة الإحراج، وهي التي تلزمنا أحياناً.

بدأت القصة حينما أُتفق على أن يعلم بروتاغوراس الرجل النبيل كيفية إقناع أعضاء المحكمة بحجته وإستمالة رأي الجمهور للإتجاه الذي ينوي مقابل أجرٍ ضُمن الإتفاق غير أن النبيل إشترط على معلمه أن يدفع إليه بقسم من المبلغ فقط ويؤجل القسم الثاني إلى أن تظهر إجادته لما تعلمه جليةً وذلك بأن يظفر في إحدى المناظرات التي سيتصدى لها أمام المحكمة فعكف بروتاغوراس على تعليم الرجل فنون المغالطات المنطقية وأدوات الخطابة والحوار والبلاغة وقت غير يسير حتى أنجز مهمته ومضى كلٌ إلى سبيله كما مضت الأيام والشهور دون أن يدفع إليه النبيل بالقسم الثاني من المبلغ ما أضطر بروتاغوراس إلى التفكير في طريقة لإستيفاء المال من ذلك الرجل.

ولم يلبث أن أهتدى إلى خطة بدت جيدة في نظرة فباشر تنفيذها على الفور قبل أن تختمر كفكرة في رإسه فأقام دعوى في المحكمة ضمنها الإتفاق الذي أبرمه مع الرجل النبيل وهو مطمئن إلى كلتا النتيجتين فإن ظفر وهو المعلم البارع في هذا الشأن فستلزم المحكمة النبيل بدفع المبلغ بناء على حكم القضاة أما إن خسر فهذا يعني أن النبيل أجاد فن المغالطات المنطقية وبالتالي فقد تحقق الشرط الذي بينهما مايلزمه بدفع ماتبقى من المال أي أنه في الحالين سيكون ملزما بدفع القسم الأخر من المال.

وهكذا أراد بروتاغوراس ولم يدر في خلده أنه أجاد تعليم تلميذه إلى الحد الذي لايمكن أن يتفوق عليه أحد حتى هو فقد جاء رد النبيل صاعقاً لمعلمه وبذات الطريقة مستخلصاً الدواء من سم الأفعى حين بين أنه في حالة ظفر بروتاغوراس في المناظرة التي ستكون على أعين القضاة فهذا يعني أن النبيل لم يتمكن من إجادة ماتعلمه وبالتالي فالشرط لم يتحقق بعد أما إن كسب النبيل فسيلزم قرار المحكمة بروتاغوراس بالتخلي عن المال المتبقي.

وهكذا إنتهت القصة وبالرغم من أنها تبدو كالحوار البيزنطي ولانهاية لها إلا أنها تبين بجلاء مايمكن أن يفعل البيان وماتستطيع أن تجني البلاغة وهي مايبدو أنها طبيعة بشرية نعتبر نحن العرب أكثر المعنيين بها .

ولعل أبرز مادل على ذلك في تاريخنا الأدبي هي نقائض جرير الفرزدق التي أمتدت لأربعين عاماً وزخرت بأنواع المغالطات المنطقية وسحر البيان الذي إعوجت له أعناق سامعيه كما هي الحقائق.

ومن ذلك أيضاً معلقة الحارث بن حلزة اليشكري التي أنشدها على الملك عمرو بن هند دفاعاً عن قومه بني بكر بن ربيعة وردا على عمرو بن كلثوم شاعر تغلب وتفنيداً لما أدعى أمام الملك اللخمي وهي أشبه ماتكون من حيث المبدأ بالمحاكمات الإغريقية غير أن لها طابع شعري.