قبس الدهشة

لأن الدهشة هي إحدى مستويات الجهل التي تعتري عقولنا عندما يباغتها ما لا تستطيع له فهماً ولا تطيق له تفسيرا وإحدى حالات الهلع التي تنتاب العقل فيهرع بسببها إلى أرديةِ المنطق ليخصف منها ما يواري ذهوله، قبل أن يُفتضح جهله، فلا يجد غالباً سوى ما اهترأ منها.

وهي إضافة إلى ذلك حالة محيرة تتأرجح بين الإعجاب والإنبهار تبعاً لما يُعلم عن مسببها وتبعاً للطريقة التي يملك أحدنا من بين طرائق التفكير الثلاثة وينبع من خلالها ما يصدر عنه من فعل وقول.

فهي أيضاً مؤشر حياة تقاس به العلامات الحيوية لعقولنا ففاقد الدهشة كائن ميت لا يعتد به إذا أعتبر أن الأساس في تصنيف المخلوقات هو العقل ، ولذا كانت أهمية أن نحتفي بها.

وبالرغم من غرابة أن يبدو مايذهلنا هو دليل وجودنا إلا أن الأغرب أن يكون جزء مما نجهل وأن يكون مانجهل هو الحيز الذي تنفذ من خلاله الدهشة إلى عقولنا وتلتهم ماقد ألفت، تلك التي أفضى وقعها ودفعت متعتها إلى ظهور الفكر الفلسفي البشري كأساسٍ لإعمال العقل في كل مايُرى ويُحس والسعي إلى تفسير كل ظاهرة وحدث ومن ثم ظهور النظريات العلمية والعلم التجريبي وانعكاس كل ذلك على حياة نبي البشر، جعلت منا مدينون لها لحسن صنيعها وفضل مآلاتها.

ولاشك أن للدهشة علاقة طردية ثابتة تربطها بالمستوى المعرفي والثقافي والعلمي لكل منا فما قد يرتقي بصعوبة إلى أعجاب أحدنا قد يصل إلى أعلى درجات الإنبهار لأخر، ويرتبط ذلك أيضاً بنوع التفكير، فالسطحي الذي لا يحيط ذووه بأركان التفكير الأربعة في الذي قد علموه لن يستطيعوا إلى ماجهلوا فهماً أو تفسيرا، وهي ذات النتيجة التي ستئول إليها محاولات من يزاول التفكير العميق وإن امتلك أسسه وامتثل لنظامه وكان واقعياً حاضر الحس بارع الربط فلن يكون بمقدوره استحضار ما يملك من معلومات حول الأمر المعني لأن الجهل سيحول دون ذلك.

كما أن الواقعية ستصنع أفقاً لا يمكن تجاوزه وهو أيضا ذات الأمر الذي سيواجه أرباب التفكير المستنير غير أن الفارق الأوحد والمؤثر هو مايملكه هؤلاء من قدرة هائلة على المزاوجة بين ماهو واقعي ولا واقعي والإبحار خارج مدارات ماقد علموا وهي الجذوة التي طالما أبقت الدهشة عليها مشتعلة فستضيء كقبس وستتحول إلى كشفٍ علميٍ أو معرفي جديد يضاف إلى ماقد أضاء به التنويريون السابقون أرجاء هذا الكون.

فالذين تعودوا الذهاب إلى أبعد من تفسير أمر ما في الحالة الطبيعية سيصلون بالحد الأدنى إلى فك طلاسم الحالة الإستثنائية عبر مساري البحث والربط والتفكير خارج الصندوق وبأضعاف ما يملك ذوو التفكير العميق من أناة وتؤدة وتمحيص وتدقيق.

لذا فالدهشة ضالة التنويريين حيثما ثقفوها، فثمة ضوء يتشكل سيكبر إلى أن يصبح قنديلاً عملاقاً يعلق على سور العلم وإلى جوار القناديل المصطفة عبر التاريخ.

وكذلك تفعل في عقل الإنسان البسيط فمنها تنبثق الأضواء التي يحفل بها ويُعنى في كل سفر يشد إليه رحال أفكاره فلا يحط بها إلى وقد أصاب قبس دهشة يصطلي به.