الحقيقة المرة

كان كريستوفر بول غاردنر يمنع نفسه من شرب الماء حتى لا يضيع وقته في الذهاب إلى الحمام أثناء عمله متدرباً في شركة دين ويتر، وكان يقوم بإجراء أكثر من 200 مكالمة هاتفية مع العملاء يومياً ويبقى في مكتبه حتى وقت متأخر من الليل؛ لينجح بعد ذلك في الحصول على فرصة وظيفية في الشركة الكبيرة من بين عشرين متدرباً.

ثم توالت بعد ذلك الإنجازات وأسس كريس شركته الخاصة التي انطلق منها لعالم الثراء، حيث أصبح مثالاً للنجاح والإلهام في بلاده بعد انتشار قصة نجاحه التي تحدث عنها وألف حولها كتاباً وصلت مبيعاته لأرقام خيالية، بالإضافة لقيام إحدى شركات الإنتاج بعمل فيلم خاص عن قصة نجاحه؛ الأمر الذي أدى لانتشار سمعته في أمريكا في بداية الألفية الجديدة.

وكان رونالد روس يعمل تحت درجات حرارة عالية ورطوبة مرتفعة رافضاً تشغيل المراوح؛ حتى لا تتناثر قطع البعوض التي يقوم بتشريحها أثناء بحثه لاكتشاف الأسباب المؤدية لمرض الملاريا، وبعد قيامه بتشريح أكثر من 1000 بعوضه وتعرضه لخطر لسع الآلاف الأخرى من البعوض توصل لاكتشاف الميكروب القاتل الذي يسبب ذلك المرض؛ ليتوج بعد ذلك بجائزة نوبل في الطب عام 1902م.

عندما نقرأ قصص هؤلاء العظماء وندرك حجم المعاناة التي كانوا يواجهونها أثناء قيامهم بأعمالهم ثم نقارن أنفسنا بهم سنجد بوناً شاسعاً وفرقاً كبيراً، وسنكون على يقين بأننا نخطئ في حق أنفسنا كثيراً عندما نترك ضمائرنا في إجازة ونحن نعمل، ولنتساءل جميعاً: ما الذي قدمناه حتى نستحق الإشادة وخطابات الشكر والمكافآت المجزية؟

تقول مارجريت تاتشر: "لا أعرف أحداً وصل للقمة بدون العمل الشاق، فهذا هو السر، العمل الشاق لن يصل بك دائماً وفي جميع الأحوال إلى القمة لكنه سيقربك منها كثيراً".

لا شك بأننا لم نقدم شئياً يذكر أمام هذه القصص وهؤلاء العظماء، ومن المخجل بدرجة كبيرة أن نكابر ونختلق الأعذار ونضع المبررات ونعدد الفوارق بين جيلنا والأجيال السابقة؛ حتى نسمح لأنفسنا بالعيش بعيداً عن سماع الحقيقة، والحقيقة أننا نعيش في زمن توفرت فيه أعلى درجات الرفاهية وأقصى سبل الراحة، ورغم ذلك تجد الكثير منا يريدون الحصول على كل شيء ولا يريدون تقديم أي شيء مقابل ذلك.

يقول الفيلسوف الفرنسي ألبير كامبو: "لسنا ننشد عالماً لا يقتل فيه أحد، بل عالماً لا يمكن تبرير القتل فيه"، نحن لا نبحث عن مجتمع ملائكي ولا عن مدينة فاضلة؛ لأن ذلك مستحيل! نحن نبحث عن أشخاص يسعون إلى الكمال، يصيبون ويخطئون، يتقدمون ويتعثرون، يعملون ولا يتنازلون عن مبادئهم، يؤمنون بأهمية وجودهم وقيمة أدوارهم في الحياة، يعترفون بوجود الأخطاء لكنهم لا يبررون حدوثها وإنما يسعون لتعديلها.

ومن المؤسف أن تجد من يمتلك المبادئ لكنه مضطر للتنازل عن بعضها خوفاً من السباحة عكس تيار ذلك المجتمع المريض، وأملاً في الحصول على ما تبقى من الكعكة التي سيتركها كبار المفترسين، فهؤلاء قد باعوا ضمائرهم مقابل حفنة قليلة من المال أو مصلحة زائفة ما تلبث أن تختفي، أولئك وغيرهم تنطبق عليهم مقولة الكاتب الإنجليزي كولن ولسن: "إن الأوهام هي التي تجعل الحياة أمراً يمكن احتماله، لذلك يكره الناس الحقائق لأنها تبدد الأوهام وتضعهم أمام مرارة الواقع"، الأوهام التي يرون من خلالها أنهم على صواب والحقيقة التي تقول أنهم فاسدون.