رحيل الرجل الصالح

حين يأبى أحدنا أن يتعافى مما ألم به من حزن تتحول عبارات المواساة إلى كتاب مهمل على رف عتيق.

يحاول جاهدا أن يبقى حنينه رطبا.

وحين تتحول الذكرى إلى سفينة تنخر عباب أوردته وترسو على ضفاف فؤاده يضج المكان باليامال ويخرج صوت النهام من بين أضلاعه ليطرق أسماع المارة.

الفقد هو أكثر النوائب إيلاما وأشدها وجعا يأتي متسللا من خلف أمالنا ليفتك بضحكاتنا ويحول الطمأنينة التي تسكننا إلى فزع، يمضي بأحبتنا بعيدا ويبقي لواعج فراقهم تقتات أفئدتنا.

وغداة كل فقد تخبو الأماني التي كنا نتحلق حولها وتنطفئ الضحكات ويتحول المكان إلى مايشبه موقد مهجور، كأنما قد علمت برحيل الرجل الصالح، فآثرت أن تختبئ خلف ظهره لتبقى بقربه أبدا.

باسق الرواء الذي ترجل عن جواده وقد أمضى ستون عام ونيف يتنقل خلالها بين مدن العلم وقرى المعرفة فلا يحط برحاله في مكان إلا وتسمق أفكاره كهالة من نور تخرج من فيه إلى كبد السماء فتصبح منارة يستدل بها السائرون في رحاب الحياة.

ظل آناء كل شفّان يشعل بقبس كلماته أحاديث المساء فيبعث الدفء في قلوب محدثيه وينير الغسق.

تستحيل كلماته إلى نجمات من فضة تضي (أنواء) السماء فتكتظ بودق من حكم وطرف، يخرج من بينها كفان حانيان يربتان على كتفي محدثه بأدب جم فتسقط عرى الرتابة وتتسع دائرة الاتصال.

كانت عباراته تتوقد كشمس خلف غيمة شفافة تنبت في عقل سامعها ثمارا من نور.

ومابين غمضة عين وإنتباهتها تذوي الشمس ويضمحل الضياء وتمضي الريح بالفنار إلى الفناء.

هكذا يغادر الأنقياء وهكذا يترجل العظماء عن مهارهم يهوون من عل كما تفعل النجوم وحين يلتحفون الثرى يعتري الذهول ألبابنا ويصعد إلى أذهاننا قول أبي تمام:

ما علمت قبل موتك أن .. النجوم في التراب تغور
فالناس كلهم لفقدك واجد .. في كل بيت رنة وزفير
عجبا لأربع أذرع في خمسة .. في جوفها جبل أشم كبير