الطريق إلى الحائر

كنت وانا في طريقي إلى سجن الحائر في الرياض مساء السبت الماضي، لحضور مناسبة زواج احد النزلاء في السجن، اتساءل عن ماذا يمكن لصحفي يتلمس قصص الناس من الميدان ماذا عساه أن يكتب عن هذه المناسبة خصوصا وأنها المناسبة الأولى التي احضرها في مكان كهذا؟ وبعد تفكير عميق قلت لنفسي، لاداعي للتفكير.. دع الأمور تسير علي طبيعتها.. ثم بعد نهاية الحفل لابد أن تجد مايستحق الكتابة.

أقنعت نفسي بهذه الطريقة، وشقيت طريقي إلى سجن الحائر ولكن زحمة الرياض كان لها رأي أخر، فأنا أسكن في شمالها والوجهة القادمة هي في أقصى الجنوب كان الطريق شبه متوقف، وفجأة وجدت نفسي أعيد التفكير مجددا في مهمتي القادمة.

وبدأت بإطلاق العنان لتفكيري وهي إحدى طقوسي الخاصة التي من خلالها أستطيع الوصول إلى مرحلة لابأس بها من التركيز والهدوء، ليست هي المرحلة المطلوبة التي أستطيع من خلالها الكتابة ولكنها على أقل تقدير تجعلني في مواجهة حقيقية وشرسة مع نفسي.

فجأة وجدت نفسي أمام نقطة التفتيش امام مدخل السجن، اوقفني رجل الأمن واذا به يبادر بسؤالي هل انت عيسى الشاماني من صحيفة عكاظ؟ قلت نعم، ها أنا لقد وصلت، حياني بإبتسامة ولسان حاله يقول "لقد فاجئتك" قلت نعم، ولقد أخرجتني من ما كنت فيه، مد يده تجاهي وبها بطاقة زائر مكتوب عليها اسمي واسم صحيفتي.. استلمتها وشكرته، وقال اتبعني لأوصلك إلى مكان الحفل.. وهناك توقف أمام مدخل قاعة جميلة مزينة لتجهيز الحفلات والمناسبات وتحمل اسم معالي رئيس أمن الدولة عبدالعزير الهويريني.

والحقيقة هنا، لابد أن اتوقف عند الرئيس الهويريني الذي يعتبر أول رئيس لرئاسة أمن الدولة، فهو من بدأ بالفعل بإدخال حفلات الزواج لنزلاء السجن ففي عهد إدارته شهدت سجون أمن الدولة حول المملكه العديد من مناسبات الزواج وجعل من هذه المبادرات الإنسانية حديث الصحف والقنوات حول العالم.

وهي مبادرات تدل على تعامل المملكة الحضاري مع نزلاء السجون، ورغم ان اكثر هؤلاء الذين سهلت لهم إدارة أمن الدولة إكمال نصف دينهم، ومكنتهم من الزواج وسط جمع من عائلاتهم واصدقائهم،كانوا ممن تورطوا بقضايا أمنية..

ورغم شناعة العمل الذي تورطوا به، إلا أن المملكة ممثلة برئاسة أمن الدولة لم تحرمهم من حقهم الإنساني لكل من أراد ذلك.. وهي رسالة من المملكة لكل المنظمات والجهات الحقوقية التي تدعي بأن السجناء في المملكة لايتمتعون بحقوقهم الأساسية! وهنا نعلم كسعوديين أن التسييس الأعمى لكل ماهو سعودي، قد وصل لمراحل غير مسبوقة، وماتطبيق "أبشر" ببعيد!

في تلك القاعة الجميلة، إحتفل احد النزلاء بزواجه بكل يسر وسهوله وسط جمع من أسرته واصدقائه الذين شاركوه فرحته وسط أجواء عائلية كنت أشاهدها أمام عيني وانا أراقب تلك الأجواء والحقيقة أنني نسيت للحظة أنني متواجد في سجن الحائر الذي لطمالما حاولت جهات التسييس العالمية تشويه سمعته، فما كنت اشاهده هو عرس حقيقي كباقي أعراس السعوديين ومايتخللها من "شيلات" وأغاني طربية كانت تصدح بها القاعة التي تتسع إلى أكثر من ٢٠٠ شخص، ومثلها قاعة أخرى للنساء، كانت مكتظة أيضا.

النزيل "العريس" كان قد دخل إلى سجن الحائر في عام ١٤٢٨ه، وهو من الذين ذهبوا إلى أفغانستان للقتال مع تنظيم القاعدة، وتم القبض عليه هناك واوودع في سجن باغرام الشهير، ومضى هناك قرابة خمسة أعوام، قبل أن يتم نقله إلى السعودية.

وبعد قرابة ١٣ سنة من السجن في الحائر، قرر النزيل الزواج أخيرا وتقدم بطلبه إلى إدارة السجن التي بادرت بقبوله وسهلت له إجراءات زواجه خلال اقل من اسبوع، وقدمت رئاسة أمن الدولة مبلغ مالي قرابة ١٠ ألاف ريال، وعدد من الهدايا الخاصة للعروسين.

مثل هذه المناسبة السعيدة بلاشك على قلب النزيل، وبالمناسبة هذا اللقب "النزيل" اختارته رئاسة أمن الدولة لكي يكون بدلا من "السجين" ولو لم يكن إلا مجرد عبارة عن لفظ بسيط الا انه له أثر نفسي على النزلاء في السجن الذين يرون أنه يمنحهم صفة غير موجودة إلا بسجون المملكة، تترجمها أفعال وأقوال لتجعل من السجن مكانا ليس مستحيلا للحياة العادية.

وهنا شاهدت عدد من النزلاء الذين يتوشحون سترات مكتبوب عليها "اللجنة الإعلامية" وهم مجموعة من الشباب الذين انزلقوا إلى مواطن الفتن، ولكنهم وجدوا في السجن فرصتهم إلى ممارسة هواياتهم الخاصة، كالتصوير والمونتاج وإنتاج الشيلات والاغاني وتوثيق الحفلات.

يخبرني أحد هؤلاء الشباب الذي كان يحمل على كتفة كاميرا يوثق من خلالها أجواء المناسبة، أنه وجد نفسه يوما ما ضحية للتحريض المؤدلج لدعايات" داعش" المضللة على الإنترنت.

واستجاب لها وقام بالسفر إلى سوريا وهناك انضم بالفعل إلى تنظيم "داعش"، وبعد قتال دام لقرابة ٦ أشهر، اكتشف ان ماجاء من أجله ليس إلا ضربا من ضروب الإرهاب الممنهج، وأن التنظيم الذي كان يقاتل في صفوفه، لم يكن الا مجموعة من المرتزقة الذين يعملون بشكل ممنهج لمصلحة جهة خارجية.

وأن الأفعال التي كان يشاهدها أمامه، ليست من الإسلام في شيء، حيث قرر بعدها ترك التنظيم، والعودة إلى المملكة، وهو الآن يعمل ضمن مجموعة من رفاقه الآخرين كمصوريين هواة ويتنقل هو وزملائه بين عدد من سجون المملكة لتوثيق الحفلات والمؤتمرات.

يقول هذا الشاب أنه لم يبقى إلا وقتا قصيرا على انقضاء محكوميتة، وبعدها سيطلق سراحه، وهو يطمح إلى العمل كمصور صحافي. وبعد أن غادرني شاهدته وهو يتصور "خلسة" بجانب كاميرا إحدى القنوات التلفزيونية التي كانت حاضرة لتغطية الحفل، وبعد أن هممت بالخروج من القاعة، وجدته أمامي وقال لي " قريبا سأراك في إحدى الحفلات الغنائية" يالها من لحظة منتظرة.. أرجوك أخبرني ماهي أخبار محمد عبده"؟!