ليس من قرأ كمن رأى

بما لم تأتِ به الفنون الأدبية الأخرى من أثر وإثراء على فهم القارئ وإدراكه، تأتي الرواية وإن خلت بنيتها من الموضوعية وبدت في جلها ضرب من الخيال.

بل أن فائدتها لتتجلى في ذلك كما هي متعتها فحيث يضع العمل الروائي خيال القارئ ثَمة فضاء رحب وجناحين يستطيع من خلالهما أن يحلق كيف شاء وآنا شاء، فلايعود من كل سفر إلا وقد ظفر مهارة ما أو إستزاد من أخرى وربح مايضاف إلى عقله من بديع اللغة وبليغ الفِكَر فيغنيه ذلك ويزيده يسراً وكفاية.

الخيال الذي ما أن يُدعى إلا ويتشكل كغيمة ماطرة لاتلبث أن يُرى ودقها وقد أُجري في أودية الفِكْر ليسقي مابُذر فتستحيل حدائق غناء بكل مبتكر.

هو ذاته الذي يقود عقل القارئ إلى تلك الفكرة الذي ظلت تنتظره منذ قرون ليحتفي بها وتحتفي به بعيداً عن أعين الآخرين قبل أن يُلمس أثرها على سماته وسلوكه.

وهنا يكمن الفرق بين مشاهده رواية بإطلاق الخيال في رحلة ممتعة غير مقيدة وبين مشاهدة فيلم أُطرت أفكاره فتلقاها المشاهد وقد عُلبت داخل شاشة مسطحة.

وبصرف النظر عما إن كان النص في أصله يضج بالحكمة أو كان مجرد محاولة لتأطير العقل فإن الخيال قادر على تجاوز الأطر المصنوعة سلفاً في رواية ما وهو مالاتملكه العينان لذا فهما لاتستطيعان أن تغادرا ذلك الإطار المربع المريع، فالخيال يرى مالاتراه العينان.

لذا فإن ماتضيفه مشاهدة عمل ما إلى أحدنا ضئيل، هزيل إذا ماقورن بما يضيفه تولي أحدنا مهمة أن يخرج العمل الروائي فيُلبس شخوصه مايراه مناسباً ويعطي للأماكن وللزمن مايظنه موائماً.

والحقيقة أن تحويل رواية ما إلى فيلم سينمائي يبدو كتحنيط فكرة معينة تعتمد في نجاحها على خيال المتلقي ذلك الذي يتفاوت من شخص إلى أخر بل ويعد كوضعها في قالب صُنع من خيال ومعرفة مُخرج ما وإن كان مبدعاً مما يفسدها ويفقدها قدرتها على تحفيز الخيال.

وبهكذا عمل أيضاً يتم تحنط الخيال وربما قولبة الأفكار فيضيق خيال المتلقي حتى لايتجاوز في سعته خيال بائع كاذب.

ولعل مافعله المخرج الألماني توم تايكور براوية العطر الشهيرة لمواطنه الروائي باتريك زوسكيند يشبه ذلك إلى حدٍ بعيد، فقد وضع حدوداً دنيا لخيال المشاهد ليس بمقدوره أن يتجاوزها، وأظهر (جرونوي) بطل الرواية خلال سعيه لإكمال العطر التام كالمصاب بالعته وليس كمعتل نفسي كما يرى كثيرون وأنا منهم بطبيعة الحال.

وكذلك هو الحال في روايات نجيب محفوظ التي تهافت المخرجون على تحويلها إلى أفلام ليجعلوا من المشاهد إستاتيكي الخيال محنط التصور .

وكذلك هي أيضاً رواية البؤساء للفرنسي فيكتور هوقو إحدى أعظم الروايات على الإطلاق والتي منذ صدورها في بداية القرن التاسع عشر إلى هذه اللحظة مازالت عصية على المحاكاة، وملهمةً في ذات الوقت، وهي مفارقة قلما تجتمع في عمل أدبي.

محاولات المحاكاة التي بدأها المخرج ريتشارد بوليسلاوسكي في عام ١٩٣٥م للرواية التي تصف الظلم الاجتماعي في فرنسا مابين سقوط نابليون والثورة الفاشية ضد الملك لويس فيليب، بتداعياتها الإجتماعية وأثاره السياسية أحياناً والتي قد تبقي ندوباً في مخيلة القارئ مثلما تفعل في قلبه كلما رأى أو ألتقى بائساً.

وأنتهت على يد المخرج توم هوبر وحصدت العديد من الجوائز كانت جميلة ( أي محاولات المحاكاة ) ولكنها لم تمكن المشاهد من قدرات الكاتب الوصفية وحالت دون إلمامه بقدرة الروائي على تصوير الشخوص وماتحمل عقولهم وأفئدتهم.

وبنأي الطرف عن أن لكل مخرج رؤيته التي قد لاتتوائم مع خيالاتنا فإن (جان فلجان) الإنسان في الرواية كان أعظم وأسمى وأنبل من أن تحتويه رؤية مخرج مهما كان مبدعاً.

هي الرواية إذن حتى حين تكون سهلة في بيانها رقيقة في بنيتها السردية فإرتباطها بالخيال يعقد مسألة إخراجها من بين دفتي كتاب إلى شاشة عرض حتى أنه ليبدو باهتاً كطلاء حجرة عتيقة.

لذا فقراءة رواية تثري أضعاف مشاهدة فيلم، وليس من قرأ كمن رأى.

[email protected]