أعتذر باسم الصحوة

يبقى الصدق أسمى الآداب وأرقى القيم التي يمكن لبني البشر أن يزاولوها وأجل النعوت وأجمل ماقد يُتخلق به، وهو أيضاً ميزة العقلاء ومزية النبلاء، وربما ارتقى إلى مستوى المعيار الذي تقاس إليه الفضيلة والأصل الذي تعود إليه فروع الخُلق الكريم جميعها.

والمركب الذي ينخر عباب أوردتنا ليصل إلى قلوبنا وعقولنا بما حمل فيضعه أيما مكان ثقف حتى يصبح له مستقراً.

لكنه يحتاج إلى شجاعة وإقدام لا يعدمهما من جُبل على الصدق، وثبات ورسوخ ولا يجهلهما من كان له الإخلاص طبعاً.

ومع أنه أي الصدق في حد ذاته صفة نبيلة وفضيلة متعدية إلا أنه لايمكن أن يكون كذلك دون التحقق من صحة مادته والتأكد من سلامة مقصده.

فالحديث بصدق وثقة عن حدث مفترى وحادثة مختلقة ظن راويها بأنها حقيقة ليس صدقاً وإن بدا كذلك فإرتدى عباءته ولبس رداءه، وكذلك تفسير حدث ما أو قول معين بمايُظن به.

فهو لايعدو عن كونه ظن وافق هوى فقيل به ليملأ صحاف القلب ويُشبع فراغ الروح.

وكذلك هو الحال أيضاً حين يروي البعض بيقين الأمين وثقة المخلص حدث لاأصل له وكأنه حقيقة مسلمة لإيصال فكرة ما فيُروى عنه وتتناقله الركبان فلايلبث أن يصبح في حكم الثابت سيما حين يكون الراوي ذَا حضوة في أوساط المتلقفين لكل فكرة دون إخضاعها لمفرزة العقل، ومايزرع ذلك لاحقاً من قناعات ومايورث من فِكر.

لذا فإن من مضاء العقل إلى عظيم العبر وإرتقاءه إلى بديع الفِكر، مرونة الفهم والإيمان بتغير المقاربات التي نستند عليها في تفسيرنا لما نرى ونسمع، عطفاً على عدة قواعد منها أن للحدث الواحد في ذاته تصورات عدة مختلفة تُبنى على المستوى المعرفي بتفاوته وتغيره وعلى حصيلة تجارب الإنسان والدروس المستقاة من ذلك، وهو عمل بشري لايرقى إلى مستوى الكمال ويعتريه مايعتري الإنسان من قصور وينتابه ماينتابه من ضعف.

لذلك فبالرغم من أن العقل أنفس مايملك الإنسان إلا أنه لايمكن إعتبار تفاسيرنا وشروحاتنا سوى آراء لاترتقي إلى منزلة الحكم.

وهذا مايجب أن يعيه المتلقي لينظر إلى كل مايرده من هذا المنظور، فليس الصدق كل مايصدر عمن نفترض صدقه وليست الحقيقة كل مايوافق ويتوافق مع مستوانا المعرفي وتستحسنه العاطفة.

كي لايمضي عقوداً من عمره معتقداً بصواب ماتلقاه وحين يكتشف خطأه لن يظفر سوى بإعتذار يحمله إليه صوت تهدج وهو يستنجد بشجاعته فبدا عليه الندم إلا أنه رغم ذلك لن يعيد إلى ماضينا الباهت ألوان البهجة التي سرقت بإسم إستنهاض الهمم.