سطوة البيئة

جرت العادة على أن يتم تصنيف البيئة كأحد الأسباب الرئيسية المؤدية إلى تخلف الأشخاص وتراجعهم عن مواكبة ركب الحضارة والتطور في مختلف نواحي الحياة، وأعني هنا بمصطلح البيئة كل ما يحيط بالإنسان من أشخاص وتصرفات وعادات وتقاليد من شأنها أن تحط من قدر الإنسان وتتسبب في تدني اختياراته وسوء تصرفاته وتجعله أقل من غيره شأناً ومكانة.

ولكن دعونا نفكر قليلاً في صدق هذه الفرضية من عدمه؛ ونتساءل عن أولئك المبدعين الذين خرجوا من رحم البيئات السيئة ومن أوساط متخلفة ربما يصل الحال في بعضها إلى اعتياد الجريمة واستمراء المنكر؛ فمع وجود هذه البيئات السيئة يصبح الإنسان المبدع مكبلاً ومضطراً للرحيل إلى أماكن أخرى تدعم موهبته وتنمي إبداعه، أو الاستسلام لسطوة البيئة التي بلا شك ستحوله من إنسان مبدع إلى شخص آخر مختلف تماماً عما كان عليه.

وفي بيئات أخرى أقل ضرراً من تلك التي ذكرتها يصبح التعايش مع العادات السلبية والأشخاص الفاشلين والقيم والمبادئ المنتهكة غصةً في حلق المبدع؛ فلا هو بالذي استطاع أن يخرج من دائرة السوء التي تحيط به وأعلن طلاقها إلى غير رجعة، ولا هو بالذي صرخ في وجه تلك المظاهر السلبية وسجل موقفاً مشرفاً له، بل ظل صامتاً خشية أن يتعرض للأذى أو القطيعة أو على الأقل ألا ينظر إليه على أنه منبوذٌ في مجتمع تغلب عليه السلبية.

إذاً فنحن أمام حالة متباينة ينبغي علينا من خلالها ألا ننظر لكل مبدع على أنه نتاج لبيئة إيجابية، وعلينا كذلك ألا ننظر لكل بيئة سلبية على أنها بؤرة للفساد ومرتع لقتل الطموح وتخريج الفاشلين، والدليل كما ذكرته في بداية المقال عن وجود الكثير من المبدعين الذين خرجوا من بيئات سلبية ولم تكن تتوفر لهم عوامل النجاح لولا وجود الرغبة الجامحة والأنفس الطموحة والهمة العالية التي دائماً ما يتصف بها الناجحين، وفي المقابل نجد الكثير ممن توفرت لهم وسائل التطور والتقدم لكنهم لم يستفيدوا من ذلك كله واختاروا لأنفسهم المكانة الدونية والهمة المتدنية، ويتضح جلياً أن المسألة متعلقة بتفكير الإنسان ورغبته أكثر من كونها متعلقةً بتأثير البيئة المحيطة عليه.

فلك أن تتخيل أن يوجد في هذا الزمن الذي توفرت فيه كل أساليب التعليم وتنوعت فيه كل طرق التعلم من لا يرغب في تطوير ذاته وتحسين مهاراته وفضل الاكتفاء بوظيفة متدنية أو الدخول لتخصص مجهول المستقبل، ورغم أن جميع العوامل المؤدية للنجاح متوفرة لدينا إلا أن المسألة تبقى مسألة فكر، وفي كثير من الأحيان تكون الأفكار السلبية عائقاً أمام تقدم المجتمعات ورقي البشر، ولك أن تتخيل أن العلماء والعباقرة والمخترعين والمكتشفين الذين أثروا العالم بإنجازاتهم لم يكن يوجد في زمنهم الكمبيوتر، ولا السيارة، ولا الطائرة، ولا الهاتف، بل هم من اخترع تلك المنتجات التي نستخدمها اليوم ولا نستخدم عقولنا معها.