مساءلة الفهم السائد

ثمة بون شاسع بين معظم (الفهم السائد) لأمر ما في مجتمع ما وبين الفهم الصائب والتفسير القويم لذات الأمر.
بون لايعيه سوى قلة اعتادوا إعمال العقل في كل مارأت أعينهم وثقفت أسماعهم، ظلوا وما فتئوا يفعلون إلى أن إتسعت دائرة الضوء الذي يشع من مساءلتهم لينير ماحولهم فيستنار به.

وهم مايمكن أن ننعتهم بالتنويريين، لقاء مايثيرون من مساءلة نحو كل ماهو شائع ويطرحون من إستخبار تجاه كل ماهو غالب ليفضي ذلك إلى إشعال جذوة التحول عن إستاتيكية التفكير.

مايسمى بالفهم السائد ليس سوى ماجرى عادةً في مجتمع ما حتى تشكل على هيئة نظم وقوانين أقامتها قاعدة أن ماتكرر تقرر وبقيت على حالها إلى أن أصبحت بمضي الزمن تراثَ أسلاف ذَا قدسية زائفة وهو ليس سليماً في الغالب لأنه في جزء منه نقل لم يخضع لعقل، وفي جزءه الآخر منطقي يفقد سلامته لتعارضه مع ثابت.
ثم أنه أُخذ ككل كما هو دون تمحيص ولاتحقيق فلاتعرف ماهيته ولا تعلم غايته ولا تُرى علته سيما أن من يؤمنون به هم أنصار اللاتغيير وشيعة اللاتفكير وأبعد مايكونون عن قبول التجديد وموافقة التحديث، فهم من فرط سكونهم يكاد إستخبار التراث أن يكون مستهجناً مثيراً للدهشة.

ولعل من المفارقات ذات العلاقة والتي يلزم إيرادها أن البعض قد أنزل التراث الإجتماعي منزلة التراث الفقهي فجعلهما صنوان ظناً منه أن النظم الإجتماعية منزهة عن الزلل مثلما هو الموروث الديني المحقق لتشابكهما غالباً في المجتمعات المتدينة وصعوبة فرزهما وبسبب الإستاتيكية سالفة الذكر أيضاً.

لذا فمساءلة كل ماهو سائد بهدف تمحيصه ثم تقويمه وتصحيحه حاجة ملحة في سياق تحول أي مجتمع من متجانس وساكن لايثير الأسئلة إلى متنوع لاينفك عن الإستخبار كما يبدو مجتمعنا اليوم وهي عادةً أي المساءلة لاتلبث طويلاً حتى تؤتي أُكلها على صعيد الوعي الجمعي فترتقي به إلى مستوى رفيع.

نقل أفلاطون الكثير من المناظرات التي أجراها سقراط مع السفسطائيين حول عدد من المفاهيم التي سادت آنذاك، فكانت مساءلة الفهم السائد والتي أمست بعد ذلك جرماً لايغتفر وقد يودى بصاحبه إلى حتفه مثلما كان من أمر الفيلسوف اليوناني حين تجرع السم تالياً ثمناً لذلك، لكنه شق طريق التغيير على مستوى معايير الأشياء فأيقظ المساءلة في عقول الإغريق، أو أسس لنقد الفهم السائد، والذي إنعكس بطبيعة الحال على الفرد اليوناني وعلى أثينا موطن الفلسفة العتيق.

وكذلك هي الأمة الأمريكية التي تتقدم العالم اليوم وترى في البراقماتية فلسفةً ومنهجاً إنسانياً قويماً ومع أنها لاتبدي منه سوى مايخص الجانب المعرفي فهي تعتبره مثاليةً مطلقةً.

وهو مايعزز أن ماأُجري عادة لايقترن بقدم البشرية ولا حداثتها ولايرتبط بعرقٍ دون آخر ولا أمة دون سواها، بما في ذلك نحن.