مبدع مغمور وأحمق مشهور

تعلمنا في مجال تطوير الذات أن المحن والمصائب قد تأتي من ورائها الفوائد والمكاسب، وأن الظواهر السلبية في عمومها هي حالات قابلة للنقاش؛ بمعنى أننا لو نظرنا إليها بتمعن لوجدنا فيها الكثير من الإيجابيات الخفية.

وأنا هنا قد تعمدت البدء بتلك المقدمة كمدخل لمقالي الذي سأتحدث فيه عن طغيان الظواهر السلبية في مجتمعاتنا من خلال شهرة الحمقى والروابض على حساب المتفوقين والمبدعين، وكنت قد تساءلت في مرات عديدة عن خفوت نجم المتفوقين والمبدعين في مختلف المجالات.

وأعني هنا المخترعين والمكتشفين والعلماء والأدباء، وتساءلت أيضاً عن عدم بروزهم في هذا الزمن مقارنةً بمشاهير مواقع التواصل والممثلين والفنانين وفارغي المحتوى.

والحقيقة أن هناك أسبابٌ عديدةٌ وراء هذه الظاهرة يأتي في مقدمتها ثورة التقنية التي صرنا نعيشها ونتعايش معها في الوقت الحالي؛ والتي كان من أبرز مخرجاتها طفرة الهواتف الذكية ومواقع التواصل الاجتماعي التي أفرزت بلا شك تلك النماذج السلبية من فارغي المحتوى.

ويأتي أيضاً من أهم العوامل التي أدت إلى حالة التردي العلمي والثقافي التي نشهدها حالياً النظرة المادية للأعمال والأحداث والتعامل معها على أنها فرص يجب اغتنامها بغض النظر عن قيمة المحتوى وجودته.

ويأتي كذلك من أهم العوامل من وجهة نظري حالة التخلف وانكسار العزيمة ودنو الهمة التي بات يعيشها معظم شبابنا وبناتنا، واللهث خلف المغريات والرفاهيات وعدم الانشغال بالقضايا الجوهرية.

وهذا أمر شائك قد يعود سببه إلى تراجع مستوى التعليم، وضعف مخرجاته، وغياب دور الأسر في التربية الصحيحة، وترك الأمور طواعيةً للخدم والمربيات، أو لانشغال أولياء الأمور بأعمال أخرى تجبرهم على البقاء بعيداً عن أولادهم لفترات طويلة.

ولن أكون متشائماً وسوداوياً حينما أنظر لتلك القضايا السلبية لأنني على يقين بأنها لن تدوم طويلاً، فالكثير من الناس وخاصةً أولياء الأمور وحاملي لواء التربية والعلم والمسؤولين قبل ذلك لن يرضوا بحالة التردي هذه، فهم يعملون ليل نهار كلٌ في مجاله من أجل عودة أبنائنا وبناتنا للطريق الصحيح، طريق المتفوقين، والمبدعين، والعلماء، والأدباء، والمخترعين، والمكتشفين.

وأولى الخطوات التي يقومون بها ويجب أن نقوم بها جميعاً هي أن نحسن تربية أبنائنا وبناتنا، وأن نرشدهم لفضائل الأعمال وأن ندعم مواهبهم وقدراتهم حتى يكونوا أعضاء منتجين وفاعلين في هذا العالم الذي ينتظر منهم المشاركة والأثر الإيجابي، وكلما كثرت الظواهر السلبية والمشاهير الفارغين من حولهم ازدادوا حرصاً على تربية أبنائهم وتعليمهم الأخلاق الفاضلة والآداب الجليلة لمواجهة ذلك التيار السلبي وعدم تأثيره عليهم.

وربما يعرف الكثير منكم قصة فتح القسطنطينية على يد القائد المسلم محمد الفاتح، وكيف تكونت لديه تلك الرغبة الجامحة والهدف العظيم عندما كان في مراحل دراسته الأولى؛ حيث كان يصطحبه المربي الشيخ آق شمس الدين ويعزز في نفسه ذلك الهدف عندما يشير إلى أسوار القسطنطينية ثم يسأله: أترى هذه المدينة التي تلوح في الأفق من بعيد شاهقةً حصينة؟

إنها القسطنطينية، ويخبره بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: "لتفتحن القسطنطينية ولنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش"، وعندما كبر محمد الفاتح استطاع أن يحقق الهدف ويفتح القسطنطينية وهو في بداية العشرينيات من عمره؛ وكان ذلك بسبب التربية الصالحة ووضوح الرؤية والمسؤولية التي كان يتحلى بها الآباء والمربين في ذلك الوقت.