الوعي الفكري بين الضرورة المجتمعية والمواكبة العصرية

يعيش عالمنا المعاصر اليوم تغيرات سياسية واجتماعية وأمنية واقتصادية وتقنية في شتى نواحي الحياة, والعالم العربي يتفاعل بشكل سريع مع هذه التغيرات ويؤثر فيها ويتأثر بها، خاصة أن مسألة تحقيق الوعي عند الإنسان ليست أمراً فطرياً، بل إنها تُكتسب وتُنمى وتحتاج إلى بذل الكثير من الجهود المشتركة لكافةمؤسسات المجتمع المختلفة.
ولا يستطيع الإنسان أن يحدث أي تغيير في سلوكه وتصرفاته إلا بعد المبادرة إلى تنمية وعيه ورفع مستواه الفكري, لأن أي خطوة يحاول من خلالها الإنسان أن يلزم نفسه على القيام بعمل معين، تبوء بالفشل ولا يكتب لها النجاح؛ ما لم يبدأ الإنسان بتنمية وعيه الفكري.
ويؤكد أحد الباحثين بأن الإنسان بسمو وعيه يزداد بصيرة في الحياة, فيكون له تفكيره الخاص الذي يعتمد عليه في تسيير أموره واتخاذ السبل التي توصله إلى أهدافه, فينجو بذلك من أسر التبعية لهذا وذاك, ويتحرر من الانقياد الأعمى للموروثات العقائدية والفكرية الخاطئة والباطلة, ويتمكن من صيانة نفسه من الاهتمام بالأمور التافهة.
إن الإنسان الواعي فكرياً يجد كل أمور حياته سهلة، فلا يخشى العقبات والمتاعب؛ لأنه مزودًا بالعلم والحقائق والمعرفة, وأصبح يستنتج ويتوقع الأفضل، بل ويعالج قضاياه ومشاكله ويقاوم مصادر التأثير التي يتعرض لها ويتعايش معها بلا خوف أو وجل.
ويؤكد أحد المختصين الأمنيين بأن الحاجة ملحة في الوقت الحاضر على المستوى الفكري إلى بذل الجهود بكافة الامكانيات لحماية الفكر من التدمير والانحراف والتطرف, وكذلك من أجل بقاء الفكر محصناً ضد التحديات والتهديدات التي تواجه المجتمعات البشرية السوية, خاصة أن الإنسان يمتلك من المرتكزات الفكرية والصور الذهنية والمفاهيم الذاتية,ما يساعده في تكوين رؤيته الكونية وصياغة أسسه المعرفية وزيادة وعيه الفكري بما يُسهم في توجيه دوافعه وتنظيم مساعيه وتوظيف كافة سلوكه وتصرفاته وجميع شؤونه فيما يحقق له المناعة الفكرية وكشف التصرفات الخاطئة والتوجهات المتطرفة.
أن الوعي الفكري يُشكل أهمية قصوى ذات آثارإيجابية في بناء المجتمعات وتطورها، ويتضح ذلك جلياً في المجتمعات التعليمية لما لها من دور كبير في تشكيل وعي وشخصية الشباب داخل نطاق المحيط الدراسي وخارجه, إضافة إلى امتداد تأثيرهاإلى أكبر شريحة في المجتمع، بل إن الإنسان الواعي في البيئات التعليمية،يكون له أثر إيجابي نظراً لأن كل أقواله تتطابق مع أفعاله ويصبح قادراً على التعامل مع كل من يخالطه ويستطيع أن يتحاور معهم دون إقصاء أو تصادم, لأن الحوار الواعي والذي يُعد من لغات الإنسان المتطور ذاتياً، هو ذلك الحوار الذي يقبل الآخرين وآرائهم.
وكان علماء النفس في الماضي يُعرفون الوعي بأنه شعور الكائن الحي بنفسه, وما يُحيط به. ومع تقدم العلم, وتعقد المصطلحات والمفاهيم أخذ مدلول الوعي في التفرع والتوسع, ليدخل العديد من المجالات النفسية والاجتماعية والفكرية.
ويرى بعض المختصين النفسيين بأن الوعي عند الإنسان هو أساس كل عملية فكرية وهو شرط أساسي لاشتغال الفكر البشري وهو العلاقة التي تربط الإنسان بالعالم الخارجي وتجعله يتكيف في سلوكه مع ما يشتمل عليه محيطه من ضغوط, فالوعي يؤسس على ثلاثة جوانب: الجانب المعرفي (العقلي), والجانب الوجداني, والجانب التطبيقي العملي.
وللوعي مستويين تتمثل في الآتي:
أولاً: الوعي العفوي التلقائي: يعتبر الوعي خاصية جوهرية تميز الإنسان عن باقي الأشياء والكائنات الأخرى. فالوعي يصاحب كل أفعال الإنسان وأفكاره، وهو الذي يكون أساس القيام بنشاط معين، دون أن يتطلب مجهود ذهني كبير.
ثانياً: الوعي الوقائي المكتسب: وهو القدرة علىالإدراك الصحيح للأمور ومعرفة المحاذير والاشتراطات الأمنيةوتجاوز مرحلة المعرفةإلى الفعل والمشاركة الفاعلة بالابتعاد عن مواطن الزلل، والتبليغ عن المخلين بالأمن، واســتهجان الجريمة والمجرمين, ويكون تعميق مستوى الوعي الوقائي فيه من خلال المحاضرات التوعوية والمقابلات الحوارية والدورات التثقيفية المقرونة بالتدريب، وعبر التوسع في الأنشطة والفعاليات الرامية إلى تحقيق مضامين وأبعاد الحصانة الفكرية لكافة المجتمعات, ولعل ما يؤكد ذلك ما تتخذ رئاسة أمن الدولة بكافة قطاعاتها من رسائل توجيهية أمنية بصياغة فكرية ولغة عصرية وعبر وسائل الإعلام الجديد ذات التأثير داخل المملكة وخارجها ويشكرون بلسان كل مواطن غيور على وطنه.
وأرى بأن مستوى الوعي العفوي التلقائي يُعد من أقل مستويات الوعي, بل أن مستوى درجة تحقيق الحصانة الفكرية للشباب من عمليات استقطابهم من قبل الجماعات الدينية المتطرفة في هذا المستوى تكون ضعيفة, حيث يؤدي ذلك لانخداعهم بهذا الوعي السطحي العفوي التلقائي فيتصورون أنهم يعيشون بوعي يمكّنهم من معرفة الحقائق وأنهم محصنين من أي مصدر تأثير, والواقع خلاف ذلك.
واختم المقال بالمقولة المشهورة (الرجل ما هو إلا نتاج أفكاره بما يفكر، يصبح عليه).