التصور الحصيف في كشف عمليات التطرف الخبيث (2-5)

أن الكثير من الشباب اليوم في العالم الإسلامي أصبحوا في مهب رياح عمليات الاستقطاب بأيديولوجياتها المتطرفة ومجالاتها المختلفة, مما أدى إلى تزايد عمليات التحريض والتجييش ضد أشخاص بعينهم أو أوطان, مستغلين الانفتاح المعلوماتي والثورة التكنولوجية والمعرفية.

والاستقطاب من وجهة نظر علماء النفس الاجتماعي يكون بمعنى الاستيعاب الذي هو قدرة دعاته على اجتذاب الناس وربحهم على اختلاف عقولهم وأمزجتهم وطبقاتهم وثقافتهم.

إن عملية الاستقطاب الاجتماعي في ضوء مضامين علم النفس الاجتماعي غالباً ما يكون مرتبطاً بمفهوم الجماعات لعلاقتها بطبيعة الحياة الاجتماعية وتفاعلاتها, بحيث يكون فهم تلك الطبيعة من خلال فهم تلك الجماعات ودراسة دينامياتها وظروفها, إضافة إلى أن المجتمع هو عبارة عن مجموعة من الأفراد، تجمعهم روابط معينة. والفرد والمجتمع كل منهما يؤثر ويتأثر بالآخر.

ويختلف أفراد الجماعة في مستويات التفكير أو الخبرات أو درجات التأثير والتأثر؛ إذ للقائد في الجماعات التي لها هيكل تنظيمي وظائف تساعده في تحقيق أهداف أفراد الجماعة، كالتخطيط ووضع السياسة والإدارة والحكم والوساطة بين الأفراد داخل التنظيم.

إن نمط استقطاب الجماعات هو النمط المعهود في الجماعات المتطرفة. وهي ليست محصورة في فترات تاريخية معينة, أو أمم معينة, أو ثقافات معينة, والأفراد لا ينجذبون إلا لجماعة لها تأثير محسوس عليهم وتمثل لهم مصدراً لإشباع حاجاتهم ورغباتهم, وتلمس طلباتهم
وتهتم باهتماماتهم إضافة إلى أن مفهومي (الانتماء الاجتماعي, والتجاذب الاجتماعي) من أهم المفاهيم المركزية التي تحدد طبيعة علاقة الفرد بالجماعة, حيث أن من أبرز خصائص الجماعة وجود ميول وقيم مشتركة, ودوافع موحدة, وأهداف متفق عليها تحقق عملية الإشباع لبعض حاجات أعضاء تلك الجماعة .

والتأثير الاجتماعي قد يؤدي أيضاً إلى التطرف عندما يتفق أعضاء الجماعة بصورة مبدئية على قضية ما، سيما أن المجتمعات في الغالب عرضة لأنواع مختلفة من التأثير الاجتماعي, وغالباً سيتفقون مع الأغلبية – حتى عندما تكون مخطئة- سواء بسبب أنهم يعتقدون أن الأغلبية على صواب, أم أنهم يخافون الرفض أو الاستهجان, كما يمكن أن يؤدي النقاش الجماعي إلى استقطاب آرائهم, ويمكن أحياناً أن تكون الأقليات مؤثرة, ولكن يجب أن تظل الأقليات متسقة على مدى الوقت, بالإضافة إلى ذلك, فإن تأثيرها يكون غير مباشر إلى حد بعيد.

ويقسم الاستقطاب من وجهة نظري إلى قسمين:

الأول: استقطاب خارجي: ويكون خارج التنظيم أي قبل مرحلة الانتماء والانتظام.
الثاني: استقطاب داخلي: وهو الذي يتم داخل التنظيم ويخضع لاعتبارات شخصية وكاريزما معينة, وهو على مرحلتين:

المرحلة الأولى: الاستيعاب العقائدي التربوي: وتتم هذه المرحلة بداية بغسل عقول المستقطبين وأدمغتهم من ماضيهم ثم توجيه رغباتهم وتطلعاتهم فيما يخدم توجهات وأهداف التنظيم, ومن أبرز أساليب الجماعات الدينية المتطرفة في هذه المرحلة: زرع نزعة البغض والشحناء لكل أفراد المجتمع, وترسيخ عمليات الإحباط في نفوسهم بشكل عام, خاصة عند مروجي المخدرات أو من لهم قضايا أخلاقية.

المرحلة الثانية: الاستيعاب الحركي: وهو قدرة التنظيم على استيعاب أفرداه والمنتظمين فيه والمنتمين إليه حركياً, وكذلك استيعاب التنظيم وأفراده للشؤون والأصول والقواعد الحركية, وتنقسم لقسمين:

القسم الأول: ما يتعلق باستيعاب التنظيم لأفراده: من خلال النجاح في عملية التكوين ومرحلة التربية لأن البناء الحركي يسبقه البناء التربوي, واكتمال الطاقات والإمكانيات اللازمة لعملية الاستيعاب كالقدرات التنظيمية والتربوية والتخطيطية والفكرية والسياسية,
ومعرفة حقيقة الأفراد وذلك بمعرفة طاقاتهم وميولهم ومواطن القوة والضعف, وتجنيد كافة الأفراد في العمل وليس المتفوقين فقط, وتوظيف القدرات بشكل جماعي وليس فردي.

القسم الثاني: ما يتعلق بالاستيعاب الحركي: فمن خلال الاستيعاب الكامل والصحيح للأهداف وكذلك للتنظيم وطبيعته وطبيعة الأصدقاء والأعداء والاستيعاب الكامل لمختلف جوانب العمل وطبائعها واحتياجاتها, إضافة للبعد عن مخالطة الجماهير وعن العمل السياسي يكون ذلك الاستقطاب.

حيث أن الجماهير لا تعرف إلا العواطف البسيطة والمتطرفة, فإن الآراء والأفكار والعقائد التي يحرضونها عليها تقبل من قبلها أو ترفض دفعة واحدة.

وأرى بأن الاستقطاب الخارجي أصعب وأثقل على قادة الجماعات الدينية المتطرفة من الاستقطاب الداخلي، حيث يتطلب بذل مجهود مضاعف في سبيل ترسيخ مفاهيم محددة أو تغيير طرق التفكير للشخص المستقطب, وتزداد درجة الصعوبة في الاستقطاب الخارجي مع زيادة قوة القبضة الأمنية على الجماعات المتطرفة وتجفيف منابعهم الفكرية والاتصالية, إضافة إلى المتابع لإستراتيجية الجماعات الدينية المتطرفة في عمليات الاستقطاب، يجد أن الاختيار لعملية الاستقطاب لا يتم بشكل عشوائي ولا عن طريق الصدفة ولا بعلاقات شخصية أو مصالح مادية بالدرجة الأولى, بل دائماً ما يسعون إلى أن يسبق ذلك عملية مسح شامل للفرد المراد استقطابه، حيث يحددون قدراته, وما هي المكاسب من استقطابه ومدة ذلك الاستقطاب.

وأقسم الاستقطاب من حيث الأهداف إلى قسمين:

1- استقطاب فردي خاص: وهذا ينحصر في استقطاب أشخاص بعينهم لأجل تحقيق وإنجاز عملية محددة أو هدف من عمليات أو أهداف التنظيم فمثلاً: يخطط التنظيم لارتكاب عملية إرهابية في مقر أو ثكنة عسكرية, فيسعى التنظيم للبحث عن أعضاء في هذا المقر أو الثكنة يسهل لهم الدخول أو الاختراق بجميع مجالاته بما ينجز تلك العملية. ويؤكد ذلك ناجي, (ب د), في كتاب إدارة التوحش فيقول: "في مرحلة شوكة النكاية والإنهاك نحتاج لاستقطاب الأخيار من شباب الأمة وأفضل وسيلة لذلك هي العمليات المبررة شرعاً وعقلاً، وأعلى درجات التبرير أن تبرر العملية نفسها بنفسها" ص48.

2- استقطاب جماعي عام: وهذا يشمل عمليات استقطاب جميع أفراد المجتمعات ليكونوا من أعضاء التنظيم لأجل تحقيق كافة أهداف التنظيم دون استثناء وفي جميع مجالاته وأنشطته, وعند الجماعات الدينية المتطرفة يكون هذا النوع من الاستقطاب في مرحلة إدارة التوحش أي عند حدوث التوحش في مناطق عدة، سواءً التي ستعمل الجماعات المتطرفة في إداراتها أو ما يجاورها, حيث يحدث ما يسمى بـالاستقطاب التلقائي بين الناس الذين يعيشون في منطقة الفوضى بأن يلتف الناس طلباً للأمن حول كبار البلد، أوتنظيم حزبي، أو جهادي ، أو تنظيم عسكري من بقايا الجيش أو الشرطة، وفي هذه الحالة تبدأ أول وسائل استقطاب هذه التجمعات, مع القيام بدعاية إعلامية جيدة بما وصلت إليه المنطقة من أمان وعدالة (ناجي, (ب د), ص48).

والاستقطاب الجماعي له تفسيرين أحدها يُشير إلى أن الاستقطاب يكشف عن المعتقدات والرغبات الخفية، أما التفسير الآخر فإنه يُشير إلى أن الاستقطاب يخلق المعتقدات والرغبات الجديدة. ويذهب التفسير الأول إلى أن الناس في كثير من الأحيان يملكون اهتمامات مكبوتة ومتجذرة بعمق، وتكون النتيجة مزيداً من التطرف, وعندما يتفق أعضاء الجماعة في البداية على موضوع ما, قد تقود المناقشة الجماعية لاستقطاب الجماعة ولآراء أكثر تطرفاً, ويمكن تفسير هذه الظاهرة بنظرية المقارنة الاجتماعية ونظرية الحجج المقنعة.

وللحديث بقية إن شاء الله