قمة السمو

يذكر التاريخ في صفحاته الخالدة نفوساً ساميةً وأسماءً لامعةً سجلت أروع الأمثلة في سمو الانسانية وعلو شأن أصحابها، وهي مرحلة متقدمة لا يصل إليها إلا فئة من الناس الذين يتميزون بعلو الهمة وبعد النظر، شعارهم في الحياة العطاء وعادتهم الإنجاز والعمل ومحيطهم العالم بأسره.

وحينما يكون العطاء من تلقاء النفس البشرية فهذا دليل على سموها وعلو همة صاحبها والأمثلة في هذا الشأن كثيرة، منها ما ذكر عن العالم الأمريكي بنيامين فرانكلين عندما سمح بالاستفادة من اختراعاته من دون أن يحصل على براءة اختراع لأي منها، وكان يؤمن بأهمية التبادل الحر للأفكار والمعلومات، وقد قال في هذا الشأن: "كما نتمتع نحن بالمميزات من اختراعات الآخرين، فإنه يجب علينا أن نكون سعداء بإتاحة الفرصة لنا لخدمة الآخرين باختراعاتنا".

هذا السمو في النفس البشرية لم يكن لرجل عادي ولا لعالم فقط، بل كان لشخص متعدد المواهب، فهو مخترعٌ ناجح، وسياسي، وطابع، وسفير، وصحفي، وناقد، ورسامٌ للمحيطات.

وهاهو الإمام العظيم محمد بن إدريس الشافعي يقول: "وددت أن الناس لو تعلموا هذه الكتب، ولم ينسبوها إلي".

ومعروف لدينا أن الكُتاب والمؤلفين يفرحون بانتشار مؤلفاتهم ومقالاتهم وآرائهم، بل ويشترطون حصول غيرهم على إذن منهم للاستفادة من محتوى الكتب والمقالات التي يقومون بنشرها.

وقد يصل الأمر في بعض الأحيان إلى التقاضي بحجة سرقة الأفكار وانتهاك حقوق الملكية الفكرية، لكن الإمام الشافعي له رأي آخر ونظرةٌ أخرى من النادر أن تجد من يماثله بها؛ فهو حريص على نشر العلم متفان في ذلك، لكنه غير حريص على تخليد اسمه بحثاً عن المجد الشخصي أو المردود المادي؛ لأنه يسمو بنفسه عن ذلك مقابل الإخلاص والتجرد لله تعالى بعمله.

وقد يظهر سمو النفس وعلوها في بعض المواقف التي يتعرض لها الإنسان كما حدث مع خليفة المسلمين معاوية بن أبي سفيان عندما تجاوز عماله إلى مزرعة عبدالله بن الزبير، فغضب وكتب كتاباً إلى معاوية بن أبي سفيان يقول فيه: "من عبدالله بن الزبير إلى معاوية بن هند: إن عمالك تجاوزوا إلى مزرعتي وإن لم تصرفهم عني لي بينك وبينهم شأن"، وعندما وصل الخطاب إلى خليفة المسلمين معاوية بن أبي سفيان استدعى ابنه يزيد بن معاوية وطلب رأيه في ذلك فقال: "أرى أن ترسل له جيشاً أوله عندك وآخره عنده يأتون برأسه"، فقال معاوية: أوغير هذا؟ فقال يزيد: هو ذاك.

ثم نادى معاوية بن أبي سفيان الكاتب وقال له اكتب: "من خليفة المسلمين معاوية بن أبي سفيان إلى عبدالله بن الزبير ابن حواري الرسول: إنه أتاني كتابك وأساءني مافيه وأعلم أني وهبتك الأرض والخدم والعبيد وما فيها"

فلما وصل الكتاب إلى عبدالله بن الزبير استحى مما فيه وتفاجأ بحكمة الخليفة وسمو نفسه ثم كتب: "من عبدالله بن الزبير إلى خليفة المسلمين معاوية بن أبي سفيان .. أما بعد: الحمد لله الذي مكنك هذا العقل الذي أحلك في قومك هذه المكانة"، فلما وصل الكتاب للخليفة معاوية نادى ابنه يزيد وعرض عليه رد عبدالله بن الزبير وقال له: "يابني: من عفا ساد ومن حلم عظم ومن تجاوز استمال إليه القلوب".

هنا درس عظيم يقدمه الخليفة معاوية بن أبي سفيان في الحكمة والعطاء والعفو والحلم، وهو الحاكم الذي يستطيع أن يرد بالقوة لكنه رد بالحكمة فسما بنفسه واستمال قلوب غيره له وتجاوز الأزمة بعقله وحنكته.