لماذا يشعر مجتمعنا بالألم؟

مثلما يخلع الألم رداء الخديعة عن عقولنا، ويكشف زيف المبادئ الذي غُلفت به لبصائرنا، فهو يُلبس القيم عباءة الصدق، ويكسو النُهى وشاح الوعي.

ورغم الشناءة التي نكنها له وشعور الكراهة الذي يعترينا تجاهه حتى أننا لانكاد أن نتحرر من هاجسهما إلا أن ثمة مايسديه إلينا الألم، وهناك ماندين له به.

فهو كغيره من المنغصات لايُلقي بالاً لإنزعاجنا ولا لتأوهنا ومع ذلك لاتُعدم منه الفائدة ويُرجى جَداءه رغم مايحدثه من أثر على الصعيدين المادي والروحي إن نحن فطنا إلى ذلك أو لم نفعل.

فعلى الصعيد المادي يُبقي الألم كلٌ منا على معرفة تامة ومتصلة بأبعاد جسده فيرسمها في عقله الباطن بدقة متناهية قلما يعتريها الخلل حتى يعتاد الحركة بمحاذاة آلامه دون أن يتجاوز أحدهما حدود الأخر، وتبقى المسافة بينهما حيز مناورة ملؤها الحذر.

نعم الحذر أحد فوائد الألم، ذلك الذي نزاوله حين نعلم أننا إقتربنا كثيراً ممايؤلمنا وإذ ذاك فنحن نتراجع أو نتوقف لأنه (أي الألم) سبق أن أخبرنا بأبعاد هذا الجسد ذات إصطدام بأريكتنا المفضلة أو سقوط على سلم المنزل.

وكذلك يفعل حين يخبرنا بضآلة حجم الإنسان قياساً إلى هذا الكون الرحب حين يحاول التطور الهائل أن يصور لنا عكس ذلك.

أما على الصعيد الروحي أو النفسي فذلك الذي يتسلل خلسة من خلف أضلعنا ليحدث ثقباً تحشو من خلاله خيبات الأمل قلوبنا وصباً وعناءً، يخبرنا أننا نبالي ونكترث، ويهدينا تعريفاً دقيقاً للطريقة المثلى التي يجب أن نتعاطى بها مع ذات الموقف أو مايشابهه في المرة القادمة وأحياناً كيف نتحاشى حدوثه مرةً أخرى.

هو لايحفل بما نالت الخديعة من وجداننا أو بالأذى الذي لحق بأرواحنا، ولا ببريق إمتلاك الأشياء الذي خفت في أعيننا، ولايعنيه كل ذلك، ومع هذا فهو يقدم إلينا حكمة في كل مرة لايستطيع الأمل رغم جميل أثره وجمال مآله أن يقدمها.

فعلى عكس اللذة التي تنطوي على فنائها يأتي الألم فلا يطوي حادثةً ما إلا وقد إستخلص منها حكمة تدفع بنا نحو مزيد من السعادة والرضا، وليوقظ في داخلنا تلك الكلمات النائمة منذ زمن، حتى إنها حين تغادر أفواهنا نشعر ببعض الإرتياح.

هذه النظرية الأنثروبولوجية لاتقتصر على الفرد بل تمتد إلى المجتمع إذا ما أعتبرنا أن له روحاً تتآذى وجسداً يناله الوصب.

فالألم الذي يورثه جحود من أسديته معروفاً، هو ذاته الذي ينال من مجتمع دفعه نبله لأن يحسن إلى مجتمع آخر ، وبدلاً من أن يقر بنعمائة ويعترف بإحسانه، ذهب إلى أبعد من إنكار فضله وجحود إحسانه فأتهمه بالمسئولية عما ألم به.

تلكم هي الحكمة التي يهديها إلينا الألم وهي ذاتها التي يخلص المجتمع من خلالها إلى معرفة أبعاد جسده على الصعيد المادي ومعرفة الطرائق التي تجنبه الألم على الصعيد النفسي فيتعاطى بها مع المجتمعات الأخرى.