من دروس النبي

دروسٌ عظيمة يقدمها الرسول صلى الله عليه وسلم في كيفية صناعة الفرص واكتشاف القدرات ومزاولة التجارة، دروسٌ لا تكاد أن تجد لها مثيلاً في قاعات أعرق الجامعات وفي كتب أعظم العلماء، ولأن تلك الدروس كانت بليغةً وهادفةً فقد أوصلت الرسالة رغم تقديمها في فترة وجيزة، نتحدث اليوم عن القصة التي رواها الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه: "أن رجلاً من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقال: أما في بيتك شيء قال: بلى حلسٌ نلبس بعضه ونبسط بعضه وقعبٌ نشرب فيه من الماء قال: ائتني بهما فأتاه بهما فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وقال: من يشتري هذين قال رجل أنا آخذهما بدرهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يزيد على درهم مرتين أو ثلاثة قال رجل أنا آخذهما بدرهمين فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري.

وقال: اشتر بأحدهما طعاماً فانبذه إلى أهلك واشتري بالآخر قدوماً فأتني به فأتاه به فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عوداً بيده ثم قال اذهب فاحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر يوماً ففعل فجاء وقد أصاب عشرة دراهم فاشترى ببعضهما ثوباً وببعضهما طعاماً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خيرٌ لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة إن المسألة لا تصلح إلا لثلاث لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع أو لذي دم موجع".

لم تكن تلك التوجيهات العظيمة بمحض الصدفة بل كانت نابعة من إيمان عظيم بقيمة الانسان وأهمية دوره في الحياة، وكيف لا يكون الانسان عظيماً وهو خليفة الله في أرضه، لقد بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم حواره مع السائل بعد أن شاهده وتحدث معه وعرف أنه قادر على العمل، سأله عما يوجد في بيته، وهذا تأكيد على أن العمل في كثير من الأحيان قد تكون بدايته من ممتلكات الانسان وأموره الخاصة.

وبعد أن أجاب الرجل على سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عما يوجد في بيته أمره بإحضار تلك الممتلكات، ثم بدأ بالمزايدة عليهما أمام الصحابة، ويالها من دروس عظيمة في هذا الحوار، فتأمل كيف يقوم الرسول صلى الله عليه وسلم بتعليم الصحابة طريقة المزايدة في التجارة، وتعليم السائل كيفية إيجاد مصادر الدخل من أموره وممتلكاته الخاصة، ثم ينتقل بعد أن تم بيع الممتلكات إلى الخطوة الثانية وهي كيفية التصرف في المال.

حيث أمر الرسول السائل بأن يشتري بنصف المبلغ الذي حصل عليه طعاماً لأهله، وأن يشتري قدوماً ليعمل به في الاحتطاب، تأمل كيف أوصل النبي صلى الله عليه وسلم الرسالة بضرورة الاهتمام بأهل البيت وتوفير الطعام لهم؛ فربما يضطر الرجل للتأخر عليهم بعد أن يحصل على العمل، وتأمل كيف اختار الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل هذه المهنة، فلم يكن ذلك مصادفةً بل لأن الرسول صلى الله عليه وسلم عرف ما يناسبه من عمل ثم وجهه بعد ذلك لشراء القدوم الذي سيستخدمه في الاحتطاب، وهذه رسالة أخرى يقدمها الرسول عن اختيار البيئة المناسبة للعمل، فطبيعة الأرض وتوفر الأشجار المناسبة للاحتطاب ورغبة الناس في شراء تلك السلعة وربما كان الجو حينها بارداً فاختار له النبي المناسب من المهن.

وبعد أن اشترى الرجل قدوماً ساعده الرسول في تصميم ذلك القدوم ليكون صالحاً للاستخدام، ثم أمره أن يذهب للاحتطاب ويأتي بعد خمسة عشر يوماً، وهي رسالة أيضاً في عدم استعجال الرزق فربما يواجه الرجل صعوبةً في البدايات وهذا أمر طبيعي، وربما يكسب القليل في أيامه الأولى.

فأراد الرسول أن يوصل إليه رسالة مفادها لا تستعجل الرزق وتحل بالصبر واكتسب الخبرة، وبعد أن عاد بعد المدة التي حددها له الرسول وقد كسب عشرة دراهم، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "هذا خيرٌ لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة إن المسألة لا تصلح إلا لثلاث لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع أو لذي دم موجع".

يالها من دروس عظيمة في أهمية معرفة الانسان لقيمته ودروه ومواطن تفوقه وضرورة وأهمية العمل والابتعاد عن مسألة الناس، دروس في اختيار الوظيفة أو المشروع، دروس في التجارة والمزايدة، دروس في ضرورة الاهتمام بالأسرة وتوفير احتياجاتهم من طعام وملبس، دروس في التحلي بالصبر وعدم استعجال الرزق، دروس في الاعتماد على الموارد الطبيعية من مهارة وقدرة وطبيعة، دروس في كيفية التصرف في المال، دروس في كيفية البحث عن الفرص أو بالأصح خلق الفرص.