دواة الكاتب وبقعة الضوء

لايرفل الكاتب في الرفاهية التي يظنها البعض ولايحيا غالبًا على النحو الذي يعتقدون.
فبريق الإرستقراطية الذي يتوهم الآخرون لمعانه في محيا كل كاتب ليس سوى ضوءٍ عابر يظن الإعلام بإقامته طويلاً على قسماته ويشح ببقائه مسلطًا على نتاجه الأدبي والمعرفي.

كما أن هذا الضوء الآني لايلبث أن يتحول عن الكاتب ونتاجه وعن الإبداع عمومًا إلى المشاهد المعلبة التي يعرضها الإعلام الجديد،عبر الفضاء المشرع والميزات التفاعلية، فيطيل بقاءه بين ظهرانيها لأسباب عدة، ليس الكاتب أحدها بطبيعة الحال.

وحين يكون الكاتب معنيًا بالأضواء والمال والمكانة الإجتماعية فإنه في الغالب لايحصل على ذلك بل يخفق في تحقيق مايأمل فيقع فريسة في براثن خيبة الأمل لاتلك التي يعيشها الشخص العادي بل خيبة أمل من نوع آخر يتسلل من خلالها الإحباط إلى نفسه ويتراجع إبداعه وتتضاعف متاعبه.

ولكن من وعى معنى أن يكون كاتبًا، وفهم دلالة أن تناط به مهام التنوير، ونقل القارئ من التية إلى الرشاد، فتضائل في عينه أي قدر من الأضواء حصد، وأي رصيد من المال جنى.
فهو حين يلاقي خيبة الأمل تلك وذلك الإحباط فليس لذات السبب الذي أوردته سلفًا وإنما بسبب القيمة المتدنية لكل ماهو ثقافي ومعرفي في مجتمعه وعدم تقدير النتاج الأدبي والثقافي.

ولذلك يكون إمتعاضه وله تثور حفيظته وماسوى ذلك لايمثل له هاجسًا ملحًا أو قضية مهمة، لأنه شُغل بما هو أهم من بقعة ضوء أو إلتقاطة كاميرا.

هذا التنوع في التعاطي مع الهم الثقافي يشير إلى أن الكتاب لايحملون ذات الجينات الفكرية ولاينظرون إلى كل شأن من ذات الزاوية ولذلك فتباينهم داخل النطاق الثقافي هو إمتداد لإختلافهم عما يظن المتلقي.

فذلك القالب الذي صنعه المتلقي ليصهر فيه شخصية الكاتب حتى تظهر بذات الأبعاد النمطية الذي إعتادها فكره وألفها عقله تبدو من السذاجة بحيث يصعب على كل حصيف عقل قبولها.

فإذا كان بقاء أحدهم أيًا كان حبيساً للصورة النمطية المبالغ فيها غالباً التي رسمها الآخرون عنه ضرباً من المستحيل فكيف بالمبدع الذي جُبل على مزاولة الإدهاش والإمساك بكل فكرة وجذبها إلى فضاء اللامألوف.

شواهد عدة تثبت أن الكتابة لا
تدر مالًا كما يعتقد البعض ولاتمنحه منصباً مهماً وأن الوظيفة التي يشغلها الكاتب لاعلاقة لها بالإبداع وأن الكاتب عمومًا لايحيا على النحو الذي يظنه المتلقي.

فالكاتب الياباني الشهير هاروكي موراكامي كان بلا مهنة محددة وكان يتنقل من مهنة إلى أخرى، وقد كتب أولى رواياتها (أسمع صوت أغنية الريح)، في حجرة إعداد الطعام في المقهى الذي كان يعمل فيه، كما أنها لم تنقله إلى مهنة أفضل.
كما أن التشيكي فرانس كافكا رائد الكتابة الكابوسية، كان يعمل موظفاً بسيطاً في مكتب لإحدى شركات التأمين.

أما الكاتب الروسي العظيم فيودور ديستوفسكي فقد بقي فترةً طويلةً بلا وظيفة ما إضطره إلى أن يبيع إبداعه بـ"الكيلو" لأحد الناشرين حتى يتمكن من قضاء دينه.
وأضطر الكولومبي جابرييل جارسيا ماركيز أن يبيع سيارته لكي يقضي دينه كذلك ومن ثم إستطاع أن يتخفف مما يشغله فكتب روايته مئة عام من العزلة.

مايثبت أن الكتابة ليست مهنةً إرستقراطية ولا عملاً برجوازياً بل فنًا شاقًا وحرفةً مضنيةً رغم جمال أثرها على نفس الكاتب.
وحين تصبح ضرورة تمسي مصدرًا وفيرًا للشقاء ومنبعًا سخيًا للأواء كما أن إجادته وإتقانه تتفاوت من شخص إلى أخر، ولكن ليس بالضرورة أن تصعد بمن يزاولها إلى مواضع الأضواء ومراكز الرفاء.

وكما ان الأدب لاينتمي إلى البورجوازية ولا لأي طبقة إجتماعية أو سياسية.
فإن الكتابة كأداة ترتبط إجمالاً بالمعاناة لتصبح (أقرب) إلى مهنة الفقراء.
فحين ينغمس الكاتب في مداد الكلمات فهو يتحول إلى دواة.
وما أن ينتهي من كتابه مايريد حتى يطفق إلى الإغتسال من أثار الحبر التي علقت به ليسترخي كما يفعل الكادحون أخر النهار حين يعودون إلى منازلهم.

ومع شدة معاناة الكاتب فهو بالتأكيد لايعيش بيد واحدة لأنه يكتب بالأخرى ولا تعتريه نوبة الإلهام فتبقى مخيلته متقدةً طوال يومه لتتصاعد من رأسه ألسنه اللهب.

كما أن النتاج الأدبي قد لايعكس صفات كاتبه وقد لاتكون العبارات بذات الأناقة التي يبدو عليها الكاتب، وقد لايكون الكاتب بمستوى الأناقة الفكرية التي تظهر بها عباراته.

وقد لايكترث لأمر يعتقده القارئ غاية في الأهمية وقد يفعل لما وبما لايسترعي إهتمام شريحة كبيرة من مجتمعه.

إذاً فالكاتب يعيش خارج الصورة النمطية التي تحاصر المبدع دائماً، ومايعتقده السواد الأعظم من المجتمع ماهو إلا صورة ألصقها الإعلام في عقول العامة وظنوا أنها تمثل الكاتب.