كيف أسقط كورونا الديموقراطية؟

يبدو أن الأزمات المعاصرة التي عصفت وتعصف بالعالم اليوم عازمة على الكشف عن مثالب الديموقراطية وإزالة الحجب عن مساوئها.

بل وقد يمتد أثرها إلى إماطة اللثام عن الوجه الدميم لمولود أثينا القديمة الذي نمى وترعرع في أوروبا حتى أصبح فتيًا فروج له ذووه على أنه الفكر الإنساني المتبتل بمقاصد الأديان والشعيرة السياسية التي يقام العدل من خلالها فاعتقد العالم وسامته وهرولت حسناوات الدول خلفه.

الأزمات التي ظلت وستظل هي التبدلات التي يقاس بها الزمن والتحولات التي تنحى به تجاه الحقيقة، كانت ومازلت هي خيل الرهان الذي تكسب به آراء العقلاء، وفرس السباق الذي تربح به بصيرة اللبيب الحاذق.

فما توارى خلف الوعود الإنتخابية الواهية وأحتجب وراء الشعارات الزائفة لم يلبث أن مر بضائقة فتكشف، أو مرت به جائحة فانكشف، واستبان خلله وبانت علله.

ففضلًا عن العيوب الفكرية للديمقراطية والتي تبدأ بتفاوت مستوى الذكاء وتمايز مستويات الوعي والإدراك بسبل الحكم وطرائق الإدارة المثلى في أوساط الناخبين وتباين العلم ببروباغندا السياسة وبراغماتية الساسة، ولا تنتهي بتنوع الاهتمامات وإختلاف مايعني كل ناخب إضافة إلى أحادية الضمانة فيما يخص الحاكم ومؤسسات المجتمع المدني ناهيك عن قدرة الفساد على التفشي في أوساط المجتمع الديمقراطي الحاكم بدءًا من قدرة المال على شراء الرأي الإنتخابي مروراً بالمؤسسات الإعلامية التي بوسعها توجيه دفة الرأي العام وتزييف وعيه، وليس إنتهاء بعمل المؤسسة الحاكمة على إرضاء الشركات الكبرى التي تمثل في الغالب مكونًا إقتصادياً مهماً ليس من سبيل إلى النجاح بدونه.

مايجعل دخان الديموقراطية يحجب الرؤية عما أُريد بمن يتوق إلى المساواة.

ولعل ذلك بعضاً مما دعى البريطاني أرنولد جوزف توينبي أحد أشهر المؤرخين في القرن العشرين إلى القول بأن استخدام اصطلاح الديمقراطية أصبح مجرد شعار من الدخان، لإخفاء الصراع الحقيقي بين مبدأي الحرية والمساواة.

وفضلاً عن ذلك كله، فشواهد عديدة وأحداث كثيرة مازال بعضها حاضراً في الأذهان تثبت ما أعنيه هنا، تأتي الحربان العالميتان على رأس القائمة الطويلة في تجاهل رأي الشعوب الذي هو أساس الديمقراطية، فقد شُنتا بمعزل عن رأي الناخب في الدول التي تتخذ من الديمقراطية منهجًا ونظامًا للحكم.

وكذلك هي الحروب التي شنتها أمريكا وأوروبا خارج حدودها فلم تكن هي الأخرى برضى الناخبين في تلك الدول.

فإن تجاوزنا كل ذلك وتغاضينا عما آل إليه العالم عقب كل حرب بحجة واهية مقامها أن المصلحة الوطنية لا يمكن أن تخضع لتقدير ناخبين يتفاوتون في الوعي والإدراك كما ذكرنا سابقًا وأغفلنا ذكر الحروب التي ترافق مخاض ولادة كل ديموقراطية وكم الدماء التي تراق على أعتابها.

فكيف نستطيع تجاوز إخفاق الحكومات الأوروبية في منع تفشي الجائحة الحديثة وتنامي أعداد المصابين من مواطنيها، ومن قضوا بسببها وكيف نغفل تقاعسها عن فرض الإجراءات الاحترازية التي تحمي أبناء تلك الدول والمقيمين على أراضيها.

ناهيكم عن أن المنظمات الصحية التي كان يظن المواطن الأوروبي ودافع الضرائب أو أُريد له أن يظن علو كعبها وسمو عقبها أمست اليوم تئن تحت وطأة فيروس كورونا الحديث (COVID-19) في خيبة أمل تقض مضجع الشعوب المعنية.

ولعل ذلك هو ما جعل رئيس منظمة الصحة العالمية في الثالث عشر من مارس الجاري يعتبر أن أوروبا أصبحت بؤرة وباء فيروس كورونا العالمي، ويحض الحكومات هناك على العمل من أجل إنقاذ الأرواح.

وفيما ذكره إلماح إلى أمور لا تخفى عليك عزيزي القارئ.

أعقبه ببضعة أيام رسالة من السفارة البريطانية في الكويت وجهتها إلى مواطنيها إذا كنت عالقًا في الكويت وليس لديك ما يكفي من المال، فالرجاء طلب المساعدة من خلال الأصدقاء أو العائلة أو المؤسسات الخيرية المحلية في الكويت مثل بيت الزكاة أو جيش الخلاص بحسب ما جاء في القبس الكويتية في التاسع عشر من هذا الشهر.

وهو ماذهبت إليه بعض دول أوروبا حين أوصدت حدودها في وجوه مواطنيها الراغبين في العودة إلى أوطانهم، في تخلٍ واضح عن مواطنيها، على غرار ما كانت تفعل بالمهاجرين الذي كانوا يقضون جوعاً أو غرقاً.

وقد كشف ذلك أن مذهب هذه الدول إلى التفوق العسكري والتقني كان على حساب الإنسان هناك وما يمس حاجاته بشكل مباشر كالخدمات الأساسية التي تأتي العناية الصحية في مقدمتها، ولعل تواضع قدرات المنظمات الصحية في مواجهة الأوبئة خير دليل على ذلك.

وهو ما يدل على أن الحكومات الديمقراطية عموماً غير معنية بالإنسان وربما لا يعدو عن كونه صوت إنتخابي يمكن شراءه بوعد أو شعار ما ذات حملة إنتخابية أو بمبلغ زهيد من المال.

إن أحلك الظروف التي مر بها العالم لم تضع الديمقراطية بحالٍ أسوأ مما هي عليه اليوم إذا وباستثناء النظم الشمولية التي لاتنطوي تحت لواء الإنسانية الحقة، فإن الديموقراطية تكشف عن خواء إنساني وجحود مقيت تمارسه الحكومات على مواطنيها وهو ما كشفه الفيروس للعالم فأسقط الديموقراطية وشعاراتها الزائفة، فكان كالقشة التي قصمت ظهر البعير.

وفي ذات الوقت الذي تمارس فيه الديموقراطية لا إنسانيتها، تبرز قيمة الإنسان لدى النظم الملكية التي عكفت المنظمات الحقوقية الأوروبية على انتقادها فتجلى سمو حكوماتها في أنظر صورة، سيما الأنظمة الخليجية وتحديدًا المملكة العربية السعودية التي كانت ومازالت تزاول النبل السياسي من خلال كم المساعدات الذي تقدمه إلى الدول المنكوبة كان آخرها المقدمة إلى جمهورية الصين الشعبية وما أعقبه من مستلزمات صحية قدمتها إلى الجمهورية العربية اليمنية عبر مركز الملك سلمان للأعمال الإغاثية لمواجهة جائحة كورونا، وتمارس السمو الحكومي من خلال إجلاء مواطنيها العالقين في دول موبوءة حتى أولئك المتجاوزين لأنظمة السفر وعبر إتخاذ العديد من الإجراءات الاحترازية الصارمة التي تهدف إلى حماية المواطن من هذه الجائحة، وهذا ما لا يحتاج إلى كثير تأمل وعديد برهان حتى يقر في عقل كل مواطن، إذ:

(كيف يصح في الإفهام شيء
إذا احتاج النهار إلى دليل)
كما قال المتنبي.