غربة محمد الماغوط

أن يزاول أحدهم الإبداع بخفة ورشاقة، ويصنع الوعي من خلال مادته النفيسة التي لا تؤتى إلا عبر شغف مضني، وعشق شاق، فهذا أمر بالغ التأثير.

وأن يمسي آخر مثالاً يشرح الفرق بين من يبدع ليعيش ومن يعيش ليبدع، فهذا أمر ماتع الآثر.

ولكن، حين يصوغ قلم ماتع الأثر نصاً بالغ التأثير فأنت أمام ما يحتمل أنه إما محمد الماغوط أو أحد الذين نهلوا من أدبه المسرحي فجغرف إنتمائهم.

كاريزما أدبية لم تتأتى لسواه وقد تجلت بصماتها في أعمال مسرحية عدة لعل أنفسها قيمة وأبرزها نجاحاً هو (غربة) العمل المسرحي الذي قدمه الفنان السوري الكبير دريد لحام إلى جانب الفنان العظيم نهاد قلعي وفرقة تشرين السورية وضخ فيها الكاتب كم هائل من الرسائل بطرق متنوعة منها ما مايقيد الناقد في حيز الدهشة ومنها مايبقي المتلقي في وضع المتأهب لإصطياد الفكرة القادمة حتى نهاية العرض.

وهو عمل ككثر غيره يثبت أن للماغوط سحر خاص وألق إستثنائي، فلا يلبث أن يؤرجح دواة النقد في فضاء الفكرة حتى يخرج نصًا يكتظ بالعذوبة والعذاب معاً، عذوبة الكوميديا التي تؤجج الشغف المسئول بالوطن والأرض، وعذاب يذكي الولع بكل ماهو إنساني، ليعيد تقييم علاقة المسئول برعيته.

سحر يستطيع من خلاله أن يحول الكلمات إلى فراشات ملونة تعيد ضبط معيار الجمال لتقيس إليه البهجة والألوان والوعي والضحكات ورائحة المطر والأمل في غدٍ أجمل.

سحر يؤنسن تلك القطعة الخشبة لتصبح أمًا تحتضن أحلام أبناءها وألامهم وجوعهم ووجعهم.

فالفكاهة حالة خاصة من الإلهام تحتاج إلى قوة تحركها وحيلة تخرجها من قمقم عصي، إلى إغراء لايقاوم يظهر الإبتسامة برزانة دونما إسفاف، ويجعل من الإيماءات عبارات تتطاير في الهواء لتلتقطها أعين المشاهدين لاأسماعهم.

وكلما كانت الطرفة أعمق وأدعى للضحك كان خلفها فكر أرفع وخيال أوسع وكلما كانت إلتقاطتها حاذقة وتوظيفها مناسباً دلت على ذكاء ومهارة المؤلف.

كما أنها رداء فلسفي أنيق يحيكه الكاتب بحرفية بالغة ولغة آسرة كي يناسب جسد الفكرة ويوائم ملامحها.

ولذلك كان للماغوط فيما يخص الوطن فلسفته الخاصة، ولم يكن يوماً بأقل رغبةً من إفلاطون في وطنٍ عادل يساوي بين مواطنيه ويسعى للتنمية بمفهومها الصرف، ولكنه فاقه واقعيةً إذ لم يأمل أن يحكم الفلاسفة دمشق، كما تمنى اليوناني القديم لمدينته الفاضلة ولم يكن يتمنى أن تصبح العاصمة السورية مثالية إلى حد خيالي.

ولكنه كان يحلم كالسوريون الذين تتمدد دمشق عبر أوردتهم وتسكنهم مآذنها وكنائسها ويطل من شرفات تاريخهم العتيق الظاهر ببيريس وصلاح الدين ومعاوية وتبرز من خلال نظراتهم أنفة جبل قاسيون وكرم نهر العاصي وإرث الآشوريين والآراميين، ويعتقدون أن بإمكان وطنهم أن يقدم لهم تنمية أوسع وعيشاً أهنأ.

لكنه جعل من حلمه شخوصاً تتحرك على خشبة المسرح لتوجه رسائله الحصيفة وجعل من أفكاره قصائد تتناهى إلى أسماع سيف الدولة بأدب جم وذكاء باسق وربما لذلك كانت غربته ماتعة وحاذقة في آن واحد.