كلام الناس

د. سالم اليامي

كلام الناس في هذه الحياة هو جسر التواصل بين البشر وهو القناة التي تنقل الأفكار و الآراء والمواقف وحتى المشاعر في بعض الأحيان. منذ أن أنطلق الصراع في فلسطين على أرض غزة بين جماعة حماس وبين ما يسمى بدولة الاحتلال استمع الناس في أركان المعمورة لكلام السياسيين، والقادة العسكرين، والزعامات الدولية، والأممية وبعد كل جلسة استماع كانت الآراء تتشكل، تتبلور حول هذا الرأي أو ذاك.

الصراع بدمويته وبما صدر عنه من تصريحات هي كلام في نهاية المطاف كان الوجبات التي تغذى عليه الاعلام والناس على مدى أسابيع طويلة. لكن كان هناك كلام قيل والتقطته عدسات المصورين التلفزيونيين ونشر بعضه وربما أغفل البعض المهم في هذا الكلام أنه ليس ذلك الكلام المرتب والمنمق، والذي يستعد أهل الاختصاص للتفوه به أمام كميرات التلفزيون، بل كان كلام أناس بسطاء عاديون لا يجيدون التنميق، واختيار العبارات لكنهم اعتادوا أن يخرج كلامهم من القلب، وفي مثل هذه المواقف الضاغطة والتي تمثل اختباراً للناس ولمشاعرهم لنظرتهم لأنفسهم خرجت الكلمات من القلب.

تابعت بشكل شخصي غير لقاء مع الناس العاديين البسطاء على أرض غزة المحروقة واستمعت بإنصات عجيب لكلماتهم التي لاتشبه كلمات المحدثين الآخرين، أو الرسميين في شيئ. سيدة تجاوزت الأربعين انهارت وهي تقول كلمات عادية حول من فقدتهم من أبنائها وأقاربها، كانت في حالة صدمة نفسية وعصبية على ما يبدو وهيي تأكد أنها فقدت كل شيئ، وبالاخص أحبة القلب الذين لم تعد قلوب الفلسطينيين البسطاء تتسع لحزن جديد من أجلهم. قالت وهي ترفع يديها للسماد وتعود بها من جديد لتضرب وجهها المستدير الخالي من أي فرحة وتكرر كلمتين فقط:
* خلاص أنتهينا، خلاص أنتهينا.

كان هذا المشهد بالنسبة لي أهم من أحاديث وكلام ناس آخرين عسكريين أو حزبيين أو أهل سياسة، فهولاء يقولون كلام ليفسر ويؤل، ويحلل. وهذه السيدة التي لا يعرف اسمها أحد قالت كلام جاهز للفهم، ويخرج من القلب ويصل للقلوب في الطرف المقابل. في مقطع آخر لشاب فلسطيني لم يتجاوز العشرين من عمره كان يقف عند باب أحد المشافي ويكلم بصراخ، أو يقول كلمات تشبه الصرخات، كان واقف بشكل مباشر أمام كميرا تلفزيونية كما يتضح من الصورة ويجذب طرف فنيلته للخارج وكأنه يريد تمزيقها ويكرر:
* كل أهلي راحوا… ليش ياعالم

في مشهد مروع التقطت إحدى كميرات التلفزة التي تبث من أحياء جنوب غزة على مدار الساعة مشهد لفلسطيني تجاوز العقد الخامس من عمرة وكان يركب عربة يجرها حمار صغير متهالك وبدى الرجل بملابس رثة بشكل لافت وبشعر اشعث، وذقن غير حليق وسيجارة لم تفارق فمه وهو يتحدث للقناة الفضائية العتيدة ويقول:

* نكبونا، والله يستر من اللي جاي.
كلام الناس أحياناً يضع النقاط على الحروف.