المرافق الخاص للملك فهد يكشف بعض كواليس 40 عاما قضاها قريباً منه

دون سابق تخطيط، ساقني القدر إليه، وفجأة وجدت نفسي أمام “الصندوق الأسود” للملك فهد بن عبد العزيز يرحمه الله. كنز خطير من المعلومات، يحوى أسرار 40 عامًا من خدمة الوطن مع ملك وثق به، وعرض عليه أرفع المناصب. هنا لقاء (انفراد) مع رجل عسكري غير عادى، كشف فيه لـ”الوئام” عن أسرار كثيرة من مشوار بدأ في تربة واستمر حول العالم لسنوات طوال، يروي لنا فيه حكاية ملك متواضع، يأكل مع حراسه، ويستمع لصوت أم أيتام حفرالباطن فيبنى لها بيتًا كبيرًا، ويمنحها وأبناءها راتبًا شهريًّا مدى الحياة، ويقود العالم بالتليفون لينهى بحكمته وبصيرته أخطر أزمة تعرضت لها المنطقة إبان غزو صدام للكويت.

في ليلة من ليالي العشر الأواخر من شهر رمضان الكريم، زارت “الوئام” معالي الفريق أول محمد بن حمدان بن مثيب الموركي البقمي، في قصره بمسقط رأسه بقرية الحائرية التابعة لمحافظة تربة، ومن هناك جئنا بأكثر من قصة وحكاية عن حياة ملك وحكاية شعب، طلب المجد، فتحقق  له بخطى واثقة، ومواقف جريئة وشجاعة، جعلته يعانق في سنوات معدودة هامات السحب.
ورغم أنه كان يُعَدُّ أحد أهم العسكريين المقربين للملك فهد، وكان يعلم كل خطوة تخطوها القيادة السياسية آنذاك، إلا أنه بأدبه الجم وتواضعه الشديد لا يُشعرك إلا بمواطن سعودي مخلص لدينه ومليكه ووطنه، ورجل دولة بكل ما تعنيه الكلمة، حافظ لأسرار مليكه وقائده، فخور بذكرياته ومواقفه التي لا تُنسى.
قال الفريق البقمي: تعلمت من الملك الوفاء والحزم والتفاني لتحقيق الأهداف “ولم أرَ إنسانًا في حياتي يملك من العمق وبُعد النظر كفهد بن عبد العزيز رحمه الله. يدير الأزمات، يختلي بنفسه كثيرًا، يتمتع بعقلية جبارة، يختزن من المعلومات الجغرافية والتاريخية الشيء الكثير، سياسي محنك، يستمع لكل الآراء، وفى النهاية يكون رأيه الصائب. يختار من الأمور الأنسب، ولو كان أصعبها، مادام يصبُّ في المصلحة العامة. كانت علاقاته الخارجية قوية، جعل للمملكة العربية السعودية ثقلًا سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا، ليس في المنطقة وحسب، بل على مستوى العالم.

*بالنشأة والمشوار التعليمي بدأنا وكان السؤال… متى وأين وُلد الفريق أول البقمي؟ وما ظروف وأسباب التحاقكم بالسلك العسكري؟ فأجابني:

** أنا من مواليد محافظة تربة عام 1359 للهجرة، ودرست في تربة نصف المرحلة الابتدائية، ثم التحقت بالجيش لمدة سنتين، أكملت بعدها الابتدائية وتركت الجيش. ثم التحقت بمدرسة الإطفاء التابعة للدفاع المدني 1374هـ، وحصلت آنذاك على دورة في مكة المكرمة وتخرجت برتبة ضابط.

وبعد عدة سنوات، ذهبت إلى تبوك والخرج ثم الطائف، ومع أول تشكيل جديد للضباط قام به الملك فهد رحمه الله آنذاك، تم نقلي للمباحث بالرياض، ثم ابتُعثت لأمريكا مدة سنتين ونصف سنة، ودرست مواد بوليسية، وعندما عُدت، حصلت على رتبة نقيب، وعملت في إدارة تم استحداثها تحت اسم الخدمات الفنية، واعترضتُ على هذه الإدارة ،وكتبت تقريرًا لعدم تحقيق آليتها الأهداف التي وُضعت من أجلها.

* وماذا حدث بعد اعتراضك؟

** نُقلت إلى قريات الملح، وكنت أول مَن قام بتشغيل إدارة المباحث هناك، إضافة إلى أنني أول مَن قام بتشغيل إدارة المباحث في القصيم وحائل .ثم تم نقلي إلى كلية الملك فهد الأمنية، وكانت سابقًا مدرسة الشرطة وتم تطويرها ونقلها من مكة المكرمة إلى الرياض، وشغلت خلال تلك الفترة ثلاث وظائف (مدير التجنيد بالدفاع المدني، ورئيس أركان حرب الكلية، ومدرس ومدرب رماية ومشاة)،
وعُدت للكلية الأمنية مرتين وأثناء عملي بها كان وزير الداخلية الأمير عبدالله الفيصل يرحمه الله، وبعد سنة ونصف سنة نُقلت إلى سرية وزارة الداخلية، وهي ما تسمى الآن قوى الأمن الخاصة. في تلك الفترة كان الملك فهد والأخ إبراهيم العنقري وكيل وزارة الداخلية يقومان بإرسالي في مهمات خاصة خارج البلاد, ثم بعد ذلك بفترة طلب الملك فهد ضابطين: واحد يتكلم اللغة الانجليزية والثاني اللغة الفرنسية لمرافقته لإسبانيا، وتم اختياري أنا ومنصور إدريس الذي يتحدث اللغة الفرنسية وأنا الانجليزية، وبعد أربعة أشهر انتقلنا من إسبانيا إلى بريطانيا، وطلب الملك فهد (وزير الداخلية في عهد الملك فيصل طيَّب الله ثراه) أخذ دورة أمن وحماية، وقال لنا الملك فهد كلمة لن أنساها “سوف تبقون معي، وليس هناك ما أخفيه عليكم، وكلي ثقة بكم”. بعد هذه قمت وتوضأت وصليت ركعتين وطلبت من الله أن أكون في محل هذه الثقة، وأن يعينني، وأكون مخلصًا لهذا الرجل، وكانت هذه بدايتي الفعلية مع الملك فهد رحمه الله.

* كيف كانت علاقة الملك فهد بالمقربين له؟

** من أجمل ما يمكن، لم أره في حياتي يرفع يدَه على أحد، وكان كريمًا، ويصل بنفسه أقاربه وإخوانه وأخواته، خصوصا كبار السن. وقد حدثت مني بعض الأخطاء في العمل، وكان ذلك من باب الاجتهاد، ولم يحدِّثني عنها؛ لأنه يعلم أنها من باب الاجتهاد.

* اذكر لنا بعض المواقف الإنسانية للملك فهد؟

** في إحدى المرات، ونحن عائدون إلى قصره في الرياض وجدنا امرأة عند الباب وفي يدها ملف وعندما شاهدها قبل نزولنا من السيارة قال لي “روح عاين وش عندها بسرعة”، فذهبت للمرأة وسألتها: ماذا تريدين؟ قالت: أنا مواطنة من حفر الباطن، أريد رخصة قيادة لأنني أرملة وأم أيتام وليس عندي مَن يقضي احتياجاتي، ولا أريد منكم شيئًا سوى رخصة قيادة.

* وهل نقلت مطلبها للملك فهد؟

 ** نعم عُدت للملك ونقلت له طلبها وقال: تأكد عن طريق حفر الباطن، فنفذت ما أمره وتأكدت من طلبها وحقيقة ما تقوله وعُدت للملك وأخبرته فقال: “نحن أولى بأبنائها منها”، وأمر بشراء بيت لهم وصرف مرتب شهري.

* وهل من مواقف أخرى خارج الوطن؟

** كنا  في زيارة لدولة ليبيا فأعطاني الملك فهد مبلغًا من المال وطلب توزيعه على الحراسات الليبية المرافقة لنا، وكان المبلغ بالدولارات فئات مختلفة. وحدث أن أخطأت فأعطيت أحدهم مبلغًا كبيرًا وحضر باقي الحراسات عندي وطلبوا المساواة بزميلهم. فدخلت على الملك في غرفته وأزعجته وقلت له الأمر كذا وكذا، فأمرني الملك فهد أن لا أرد المبلغ وقال يرحمه الله: “الذي أعطاه الله لا أنا ولا أنت”، وعند سؤالي عن هذا الحارس وجدت أنه متزوج اثنتين وأولاده كثيرون وفي أمسِّ الحاجة.

* علمت أن الملك فهد يرحمه الله كان يسمح لبعض الحراس أن يجلس معه على صحن واحد لتناول العشاء، فهل تتذكر من ذلك شيئًا؟

**  كنا معزومين على عشاء عند صاحب السمو الملكي الأمير سلمان في الرياض، وأراد الملك فهد أن يزور إحدى أخواته وقال “ردو لنا عشاء أنا وخوياي”، وذهبنا ثم عُدنا ووجدنا العشاء صحنًا واحدًا فقط ذبيحة، وحنا كنا خمسة أشخاص، ققال الملك: “خل الأفراد يجون يتعشون معنا”، وفي ذلك اليوم كان أحدهم أول مرة يجلس مع الملك على صحن واحد ولم يستطع أن يأكل والجميع لاحظ ذلك منهم الملك فهد، فمن باب الأدب والاحترام قام الملك وقال: عندي مكالمة. قلت للفرد: “تعش تعش، قوِّمت الملك، والله أن تأكل الصحن كله”، فكان له هيبة كبيرة -رحمه الله- لدى الجميع.

* وكان للملك فهد معك شخصيًّا مواقف لا تُنسى.. فاسرد لنا أهم هذه المواقف.

** ذات مرة كان الملك حسين (ملك الأردن رحمه الله) عندنا في جدة وكنت بجوار طبيبه الخاص (أردني) ولاحظ رعشة قوية في يدي اليسرى وقال: يجب أن تعرض نفسك على طبيب، خرجت مع الملك بسيارته الخاصة ولاحظ الرعشة وقال: من متى هذي معك؟  قلت: من ساعتين، وفورًا طلب العيادة الملكية وتم تحويلي للمستشفى العسكري، وتبين أنها جلطة في الدماغ، وعدت بسلام، وبعد ثلاثة أيام أخرجني الشيخ زايد بن نهيان رحمه الله من المستشفى بالقوة، ثم أمر الملك أن أغادر لأمريكا لعمل بعض الفحوصات، وبقيت هناك ثلاثة أشهر وعُدت ولله الحمد.

وأتذكر هنا أيضًا أنه عندما كنا في المغرب تعرض أحد خويانا لحادث، وأصيب بتفتت في الكبد، ولما علم الملك أمر بنقله على طيارته الخاصة للندن إلى طبيب الملك الخاص صلاح خاطر (بريطاني من أصل مصرى) وبقي في لندن خوينا، ثم ذهبنا كلنا لزيارته بعد فترة وشفاه الله.

* أزمة الخليج ماذا تمثل في ذاكرة الفريق محمد بن حمدان؟

** أيام صعبة وحالة حرب، لكن الذي أقوله لك وللجميع إن الملك فهد خلال ثلاثة أيام كان يدير العالم بأكمله بالتليفون من غرفته الخاصة قبل صدور أي قرار. وأتذكر أنه عند إطلاق الصاروخ الأول على الرياض طلبت منه أن ينزل إلى المخبأ تحت الأرض كعمل احترازي فقال “قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا”، ثم وقفت بجواره أنظر معه إلى السماء.

* هناك من يقول محمد بن حمدان رجل فهد بن عبدالعزيز، وهناك من يقول الصندوق الأسود للملك فهد.. فماذا تقول؟

** لا صندوق أسود ولا غيره، أنا رجل عسكري أقوم بعملي المكلف به الذي شاءت الأقدار أن يكون في هذا الموقع.

* هل كان الملك فهد يكلفك بمهمات خاصة؟

** نعم كثيرة جدًّا داخل البلاد وخارجها.

* أعتقد أنه عرض عليك مناصب قيادية في الدولة؟

** عرض عليَّ قيادة الحرس الملكي ورفضت.

* لماذا؟

** لأسباب أحتفظ بها لنفسي.

* بنظرك ما أهم إنجازات الملك فهد التي عاصرتها؟

** كثيرة جدًّا، وسبق أن أشبعها الإعلام، مثل: إنشاء جسر الملك فهد، اتفاقية الطائف، إنشاء مجلس الشورى، تطوير التعليم، دعمه المستمر للقضايا العربية وخصوصًا قضية العرب الأولى: قضية فلسطين، فلا يخلو مؤتمر ولا اجتماع إلا ويتطرق الملك فهد للقضية الفلسطينية.

* ماذا تعني لك آخر أيام الملك فهد رحمه الله؟

** كان ينتابني شعور الحزن مثلي مثل أي مواطن يرى أن هذا الرجل العظيم سوف تفقده المملكة العربية السعودية، شعرت أنه خسارة كبيرة على العالمين العربي والإسلامي، ولكنْ ليس هناك اعتراضٌ على حكم الله، وبقيت معه حتى توفاه الله، وصعدت معه في السيارة التي نقلت جثمانه (رحمه الله)، وكان معي صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز آل سعود (حفظه الله).

* بعد رحيل الملك فهد، هل استمرت علاقتك بالقيادة؟

** استمرت علاقة المحبة والأخوة والوفاء.

* كلمه تود قولها.

** أطلب من الله عز وجل أن يديم على هذه البلاد نعمة الأمن والأمان ورغد العيش، وأن يحفظها من كل مكروه، فنحن محسودون على هذه النعم في ظل هذه القيادة الرشيدة وعلى رأسها والد الجميع خادم الحرمين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود أطال في عمره “هذا الإمام العادل المحبوب لشعبه”، وبجواره يقف أخوه وعضده ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، وولي ولي عهده صاحب السمو الملكي الأمير مقرن بن عبدالعزيز آل سعود (حفظهم الله جميعًا).