الليرة العصملية

نايف العلياني

سأتحدث اليوم عن أزمة الليرة التركية من منطلق تحليلي بسيط، ولعل أول ما يمكن قراءته مبدئياً هو أننا أمام أزمة بدأت بإنكار وجودها من قبل الرئاسة التركية، ومع تفاقم المشكلة إلى حد لا يمكن معه الإنكار، وصولاً إلى انتهاج طرق كالخطابات التعبوية والعاطفية كنوع من التهرب المتمثل في وضع الأزمة في سياقات غير اقتصادية.

هذه الخطابات لن تكون ذات تأثير على المتابع الاقتصادي الذي يعرف أن أزمة الليرة التركية لها خلفيات تتصل بالسياسة المالية نفسها و تعود إلى ماقبل العام 2004 حين أعيد إصدار العملة بقيمة جديدة، ليتكرر ذلك في العام 2009 بهدف رفع قيمتها أمام الدولار، غير أن هذا الهدف لم يتحقق إذ فقدت الليرة التركية 77% منذ ذلك التاريخ حتى اليوم، بالتالي لا أساس للقول بأن الأزمة حدثت في يوم وليلة، وستنتهي بين عشية أو ضحاها.

قد يروق للبعض تصديق فكرة أن رئيساً ما يتحدى القوى الكبرى فتقرر في المقابل أن تعاقب اقتصاده، ولكن هذه الفكرة سرعان ماتزول حين نقرأ السياق الزمني للأداء الاقتصادي التركي فنلاحظ التضخم المتصاعد وصولاً إلى 17% ونسبة الإقراض التي تجاوزت 18% فضلاً عن الإجراءات التي فرضها الرئيس تجاه أسعار الفائدة، وغياب أي إصلاحات حقيقية لتحقيق التوازن المالي، حتى جاءت الأزمة هذا العام لتثبت أن العقوبات الحقيقية على الاقتصاد هي تلك التي جاءت من الرئيس نفسه.

من المهم كذلك معرفة أن التوتر بين أردوغان ودونالد ترمب ليس سبباً يمكن ربطه بانهيار العملة التركية، فحجم التبادل التجاري لتركيا مع أمريكا لا يتجاوز 20 مليار دولار، وهو رقم لا يمثل شيئاً بالنسبة لدولة تتجاوز ديونها نصف تريليون دولار، ورغم ذلك كان افتعال المشكلات مع أمريكا محاولة لإظهار هذه الأخيرة كمتسبب في الأزمة، وتجاهل حقائق مثل توتر العلاقة بين الرئيس والبنك المركزي، والمشكلات الهيكلية التي جعلت تركيا في المركز الرابع عالمياً على مستوى العجز المالي.

لا أحد يمنع أي رئيس أن يحاول رفع شعبيته عبر الظهور كشخص يفرض عقوبات على القوى الكبرى في العالم، ولكن عليه فيما بعد أن ينقذ هذه الشعبية لدى المواطن العادي الذي سيجد أن حياتيه اليومية أصبحت أكثر كلفة وصعوبة، فضلاً عن إنقاذ الثقة لدى المستثمر الأجنبي الذي يرى وزير مالية تتم إقالته واستبداله بصهر رئيس البلاد، ويرى فيما بعد أن العملة المحلية فقدت 42% من قيمتها خلال الشهر الذي أعقب هذا القرار.

ما تؤكده المراكز المحايدة اليوم لا يدل على تحسن يذكر، فوكالة موديز المالية خفضت التصنيف الائتماني لتركيا إلى BB- مع نظرة مستقبلية سلبية وتوقعات بركود في العام المقبل، فيما توقعت “ستاندرد آند بورز” زيادة نسبة التضخم إلى 22% مع الشهور الأربعة المقبلة، فيما حذر بنك جولدمان ساكس من إفلاس بنوك البلاد في حال استمر هبوط الليرة التركية.

إنه التراجع الأسوأ في الاقتصاد التركي على مدى 35 عاماً، وحين نقرأ هذه الأزمة كفعل ورد فعل، سنجد ظاهرة نادرة في العالم، وهي أن المتضرر لم يقدم أي تدابير مهنية وعملية لحل مشكلته من جذورها، وإنما اتبع مع مناصريه خطاباً انفعالياً يتكلم عن كثير من الأشياء الأخرى التي لا علاقة له بالمشكلة، بل لا علاقة لها بمفهوم الاقتصاد ككل.

في لغة الاقتصاد، لامجال للتحليل الانطباعي ولا للتنبؤات المرتجلة أو الآراء الانطباعية المجردة، يمكن لأي شخص أن يسحب الأزمات الاقتصادية إلى منطقة من التجييش السياسي والديني ولكن هذا لن يغير في الأرقام شيئاً بل على العكس تماماً، هو سيدل في الغالب على الوصول لحالة اليأس في إحداث تغييرات فعلية على المعادلة الاقتصادية.

 

نايف العلياني