أأُبكيك.. يايمه!!

للوهلة الاولى في حياتي أقف عاجزا عن الكتابة وعن البوح بما يختلج في قفصي الصدري.. عجزت أن اقول وداعا أمي.. بكيت كثيرا.. وارتميت أُقبل قدميها في غرفة الإنعاش.. 5 دقائق فقط فصلتني عن لقائها.. كنت أهرول في ردهات المستشفى جزعا ومستعجلا اللقاء الذي يجمعني بها، لكن الطبيب الذي استوقفني انتزع قلبي بكلمتين.. “عطتك عمرها”.

لا.. لم تعطني عمرها، بل أخذت عمري وسنين حياتي في تلكم اللحظات المؤلمة والمجلجلة.. عانت أمي خلال سنواتها الأخيرة من المرض، لم نترك أنا وهي مستشفيات الرياض وجدة وتبوك.. بتروا جزءا من قدميها، وعاودها المرض.. كنت معها بالرياض نطرق باب أشهر طبيب بروفيسور زائر، فكان قراره بتر جزء من قدمها.. لكنها رفضت واحتسبت الأمر عند الله.

قالت لي: يا عبدالله، لا تتركهم يقطعون رجلي وأنا أمك.. خرجت بها تائها في شوارع الرياض، لكن قلب أمي المحتسب لم ييأس.. صدفة وعند باب المستشفى نلتقي بامرأة طاعنة بالسن تستوقفني، وهي ترى دموعي لتسأل: “وش فيك يا وليدي”.. قلت لها عن وجع حلوة اللبن وعن عجزهم بعلاجها.. ربتت على رأسي ورددت: علاج أمك عندي!!

أعطتني المرأة علاجا بسيطا كان هو الدواء من بعد أمر الله في شفائها.. نجت والدتي من البتر لكن بقية الأمراض بقيت في كل جسدها.. رحلت صاحبة الروح الطيبة عفيفة النفس واليد “صبحية بنت هديب بن فهد بن صقر الدوسري”، وهي التي عاشت مع أبي ستون عاما.

أذكرك يايمه وأنا طفل في شمال المملكة مع صقيع البرد والثلج، ولم يكن باب بيتنا سوى بطانية جيش نتلحف بها في الليل ونستر بيتنا في النهار.. وأذكرك “يايمه” في الجنوب ووالدي مرابط أيام حرب الوديعة وبيتنا “عشة” احترقت علينا وأنتِ من دثرنا عن النار.. وأذكرك يايمه حين ذهب أبي إلى حرب أكتوبر ضد العدو الصهيوني، وأنتِ في تبوك وحدك تخبزين لنا وتذهبين لجلب الطحين وتخيطين لنا من أكياسه ملابس.. وأذكرك يامه ونحن معك حفاة وشبه عراة تشعلين النار في حوش بيتنا الصغير جدا، الذي ابتنيناه مع أبي.

كنت أنتِ من يكسر الحجارة، وأنتِ من يشعل في دواخلنا العزيمة، حتى استطعنا أن نبني غرفتين سقفها من الخشب .. وأذكرك يايمه حين جاءك المخاض في إحدى شقيقاتي وأبي في الحرب، ولم نجد من يعينك ووقفت أردد على مسامعك وأنا طفل: يمه اطلعي معي “بالسيكل”.

خرجت ذات ظهيرة أنظر لوايت الماء في خميس مشيط، وانشقت قدمي من حافة الزنك، ونزفت كثيرا.. ولما لم تكن هناك مواصلات؛فركضت بي أكثر من 3 كيلو مترات، وأنتِ تحمليني على صدرك، لسرعة علاجي.

كنت يايمه رمز الصبر في زمن الجوع.. وإرادة القوة في زمن الانتكاسة لكل شيء.. لا مال حينها ولا جاه يحمينا.. كانت تقف أمي بشموخ “العربية الحرة الأبية”، أمام ما يكدر خواطرنا، فتنتظر “وايت ماء الجيش” من الفجر، ليملأ لنا براميل مهترئة ومغطاة بالقار، للحفاظ على ما تحمله من ماء عكر.

لن أنسى يايمه نظرتك لخزانتك الفارغة إلا من بضعة قروش هي آخر ما لديك كي نعيش، فتقسمين بيننا وأخوتي حبات الزيتون، وتأكلين أنت بقاياها.

عشتِ يا أماه كل مراحل الحياة، فكنت تنتقلين مع أبي من مكان إلى آخر في رحلات بعيدة وشاقة، إلى شرورة مرورا بجازان وخميس مشيط ثم إلى الأردن في معركة الكرامة ثم إلى حفر الباطن، حتى استقر بك الحال في تبوك.

ذهبتِ يا أماه في لحظة كنتِ أحتاجك فيها بعد أن كبرت.. احتجت أن أرتمي في حضنك الدافيء وعلى نبضات قلبك الحنون.. أردت أن أقول: “لا تروحين يايمه”، أنا لا زلت طفلا حتى في الخمسين من عمري.. ولازلت انتظر لحظات دعاؤك لي كل يوم.

رحلتِ يايمه وعزائي أنك كنتِ جنتي.. وكلما جاءك مال تسارعين بفقده لنتفاجأ أنك من يحفر الآبار في بعض بلدان المسلمين.. ذات مساء؛ طلبتِ مني مالا لإصلاح أسنانك، وتفاجأت بأنك حفرت بها بئرا لفقراء، وحين سألتك عن أسنانك رددت مازحة “أكلتهن يا وليدي!!”.

رحلتِ عني يايمه في لحظة رحل عني الجميع، وبقيت وحيدا.. لا أعرف أين أذهب ومن أين سأبدأ.. وبت يايمه أتحسس خطواتي.

اليوم شعرت أن العالم كله أنتِ، والدنيا بكل زخرفها أنتِ.. كنت أبكي بحرقة وأجول في بيتك الذي أصبح فارغا من كل شيء، أبحث عن صوتك في غرفتك الخاوية، ومنضدة طعامك البسيط.. أجلس أمام النخلة والليمونة و”المانجا” وزهرة الفل التي زرعتها كي لا تموت بعد أن ماتت صاحبتها.

فقدتك اليوم يايمه أكثر من أي وقت مضى.. لن يتعرف علي أحد من بعدك، ولن يسأل عني أحدا.. سأبقى جزعا.. هلعا على فراقك، رغم الصبر الذي تختلجه نفسي لكن دموعي لن تقف.

رحمك الله يا أم عبدالله، فقد فقدت بابا في الدنيا كنت أنتِ من يفتحه لي كل يوم بالدعاء.. اللهم إنها أمتك البسيطة الوقورة، ذهبت إليك، وهذا الذي يخفف مصابنا.

إنا لله وإنا إليه راجعون.