ضحايا الضحايا!

تركي حمدان

قرأت قبل فترة عن دراسة أظهرت أن العاملين في غرف التحرير "من يتلقى الأخبار والصور من المراسلين ووكالات الأنباء" هم الأكثر عرضة للإصابة بما يسمى "اضطراب ما بعد الصدمة".

هُم أشبه بمن تعرض لفقد عزيز أو كان شاهداً على إحدى المآسي؛ كل هذا بسبب مشاهدتهم صور دماء وأشلاء الضحايا، إنهم ضحايا الضحايا!

مشاهدة نشرات الأخبار والدخول في تفاصيلها هي واحدة من أسوأ الأخطاء التي يرتكبها الإنسان بحق نفسه. ما الذي ستستفيده حين تعلم بمجزرة في بلدٍ ما أو إبادةٍ في آخر؟ والأسوأ أن تشاهد صور الدماء والأشلاء؛ ستشعرُ بالخذلان وهو ينهش قلبك، ستجرح القيود روحك، ستشاهد نيرانَ بغْيٍّ وقودها الأحلام والبراءة، ستشاهد تقاريراً مفصلةً عن أباءٍ ينحرون أطفالهم، وربما في آخر النشرة ستشاهد خبراً قصيراً عن القبض على "لصٍ" رصدته كاميرات المراقبة وهو يسرق حذاءً لطفله؛ ستسكن في ذاكرتِك صورٌ مقززة: مجرمُ حربٍ يفتتح مشفى، زنديقٌ على منبرٍ مسجدٍ يعاتبُ المتقين، لصٌ يحاكمُ بريئاً، وألفُ خنزيرٍ يَغتصبُ نسله.

‏ستستمعُ إلى "رجالِ دينٍ" يحرضونك من القصور والفنادق على اليأس والفوضى، ثم يتبعهم جيشٌ من مرتزقة "التحليل السياسي" يطالبونك بالتوقف عن الحياة بحجة أن هناك من البشرِ من يعاني. (باطلٌ أُريد بهِ باطل).

‏إن كنت ستتوقف عن الحياة الطبيعية حداداً واحتجاجاً كلما اُرتِكِبتْ فظائع بحق البشر فتذكر بأنه لا تمر دقيقة إلا وقد اُرتُكِبتْ عشرات من جرائم القتل والخطف والاغتصاب؛ آلافٌ من البشر يتم ذبحهم يومياً وبيع أعضائهم، مئات الأطفال يختطفون كل يوم وتتم المتاجرة بهم فيتنازعهم حثالةُ الخلقِ من البلدوفليين وتجار الأعضاء.

‏الأدهى والأمر أنك ستكتشف لاحقاً أن غالبية الأخبار في النشرات المتلفزة أو عبر الانترنت، لم تكن دقيقة أو أن أنها لم تقل الحقيقة كاملة أو أنها مكذوبة أصلاً. حتى الصحيح من تلك الأخبار إن أمعنت النظر ستجد بأنها لا تفيدك في شيء، لا شيء مطلقاً. بينما الأكيد أن صحة الخبر من عدمها لن تلغي حقيقة أن أثره السلبي عليك قد وقع، وفي المحصلة ستشعر بأن هذه الحياة مكانٌ غير ملائمٍ للعيش؛ لن تجني سوى مشاعر البؤس واليأس، ستفقد الكثير من قدرتك على العطاء وعلى الشعور بالمحبة والجمال في محيطك.

‏إن ما يفيدك حقاً هو معايشة وبث الخير والجمال والمحبة في محيطك، محبتك للناس، وحتماً القرب من الله، هذا ما يفيدكَ وفيه إعمارٌ للأرض، وهو ما لن تساعدك في تحقيقه متابعةُ نشرات البؤس والإرتزاق والفظاعة.

‏وتذكر: إن اهتمام الإنسان وانشغاله بحياته الخاصة وقيامه بواجب المساهمة في بناء ونماء وطنه لايعني أبداً غيابه عن فهم ما يجري، ويكون ذلك من خلال قراءة ما يكتبه المثقفُ الحق والمفكر الحر من مقالاتٍ تحلل الحدث وتضعه في سياقهِ وتقدم المعنى منه وما قد يترتب عليه. ودائماً تظلُ قراءة الكتب بمختلف تصنيفاتها أساساً تتسع بهِ مداركُ الإنسان لتبقيهِ بمأمن من عاطفةٍ ساذجةٍ يحركها كل ناعقٍ متباكٍ ومن وعيٍ محدود يتحكم بهِ كلُ حاقدٍ جميلٌ حرفهُ قبيحٌ هدفه.

‏أخيراً: قد يظن البعض أن في اختياره عدم متابعة نشرات الأخبار دلالة على عدم اكتراثه بآلام البشر، أبداً، يكفي الشخص إيمانه بحق جميع البشر بالحياة الكريمة والآمنة، ورفضه لكل شكل من أشكال الظلم، وتعاطفه الصادق مع كل الضحايا في أي بلد ومن أي دين، يكفيه هذا لكي يكون إنساناً بحق.