‏الأبجدية الأولى .. الأبجدية الأبقى

تركي حمدان

‏اكتشاف المرء أن الحياة "مبادئاً وقيماً" كما صورها له الجيل السابق لا تشبه الحياة كما يراها، وما ينتج عن هذا من شعورٍ بالاغتراب، أمرٌ لا يقتصر على أبناء جيلٍ أو ثقافةٍ بعينها، فهو لا يعترف بخصوصية شعبٍ أو مكان، ولا يكف عن الحضور وكأنه جينٌ يورثه السابقون للاحقين.

من ناحية أخرى: كان الاختلاف الذي يجدهُ المرء بين الحياة كما تُصورُ له من سابقيه والحياة كما يجدها، وإن تباين مقدارهُ بين جيل وآخر إلا أنه ظل ضمن حدودٍ معقولة؛ متدرجٌ في تغيُّرِهِ؛ بينما نجد أن ما شهده العالم من تطور معرفي وتكنولوجي مهول خلال الثمانين عاماً الماضية، يكاد لشدة تسارعه أن يكونَ جذرياً حين تلاشت -دون كبير مقاومةٍ- مسلماتٌ "راسخة" لآلاف السنين، وأنجزُ الكثير مما يمكن القول أن مجرد الظن بوجود شخصٍ في الأزمنة السابقة يتحدث عن إمكانية إنجاز ما أنجز الآن من تطورٍ هو ضربٌ من الجنون !

‏ثم ما تبع هذا التطور من تداخلٍ ثقافي غير مسبوق هزَّ قيماً وأقام أخرى، كلُ هذا أدى إلى نشوء هوةٍ عميقة ليست بين الجيل وسابقه وحسب، بل بين صورة الحياة كما يراها المرء الآن وبين الصورة التي تشكلت لديه خلال سنوات سابقة وحتى الصورة التي سيراها بعد سنوات قليلة.

‏هذا التطور والتداخل "الثقافي تحديداً" الذي شهده العالم، بدا في نظر بعض الأمم نتاجاً طبيعياً سائغاً بل ويجبُ "بحجة المواكبة" تقبله وتبني ما يقدمُه "سادتُهُ" من قيمٍ ومبادئ محرفةٍ أو جديدة بالكلية؛ والنتيجة التي جاءت بها هذه الخطوة الانهزامية هي ذواتٌ مغتربة ومجتمعات منهارة أو توشك.

‏في يقيني أن أبجديتنا الأولى التي توارثناها من أبائنا في قراءة الحياة، وأعني مبادئنا وقيمنا في التعامل مع ذواتنا حيث الإيمان بها كقيمةٍ عليا راسخة الجذور، وفي علاقتنا بقادتنا حيث الولاء والطاعة، وفي العلاقة بين أفراد المجتمع ومكوناته حيث الإيمان المطلق بوحدة المصير؛ هذه المبادئ وإن بدت أكثر غربة في هذا العالم إلا أنها هي الأقوى صموداً والأكثر ملائمة من غيرها.

‏صحيح أن في اختيار المرء التعامل مع الحياة بأبجدية قد تبدو بسيطة ومباشرة سيشهد الكثير من لحظات العجز عن فهم هذه المفردة أو تلك، إلا أنه في النهاية سيأخذ بيده نحو فهمٍ مستقر للحياة، فهم معقول ومُطمئِن يحميه ومجتمعه من الاغتراب والانهيار.