عرفت السعودية السينما مرتين؛ أولاهما ترفيهًا وأخراهما صناعة ورؤية، وبينهما مخاض فولادة نفضت التراب عن ثقافة وإرث شعب طواق، لرسم ملامح مستقبل يؤمن بأن الفن قوة قصوى، وجسرًا يلغي المسافات بين الشعوب.
في مرحلة مبكرة تعود إلى ثلاثينيات القرن الماضي، عرفت السعودية السينما لأول مرة في تاريخها، وعلى استحياء، حينما أدخل الموظفون الأجانب في شركة كاليفورنيا العربية للزيت (التي أصبحت فيما بعد شركة أرامكو) في منطقة الظهران بالمنطقة الشرقية 3 دور للعرض السينمائية بمجمعاتهم السكنية؛ إحداها للترفيه عن كبار موظفي الشركة (سينما السنيور ستاف)، وأخرى للترفيه عن موظفي وعمال الشركة المتوسطين (سينما الإنترميديت)، ومثلهما سينما مطار الظهران التي أنشئت في الأربعينيات للترفيه عن جنود بعثة التدريب العسكرية الأمريكية، كما تشير سجلات شركة “أرامكو“.
وفي 16 سبتمبر 1957م ومن الظهران، بدأ بث محطة تلفزيون أرامكو، كثاني محطة تلفزيونية في الشرق الأوسط، والتي عرضت إنتاجاتها من الوثائقيات الخاصة بشركة “أرامكو”، وبعض الأفلام الروائية، كان من بينها فيلم “الذباب” الذي أدى بطولته حسن الغانم في 1950 كأول ممثل سينمائي سعودي.
مع أواخر الخمسينيات وبدايات الستينيات، ازدهرت بالسعودية سينما الأحواش، حيث كانت “بكرات” السينما تبدأ في الدوران كل يوم من بعد صلاة المغرب، وتنعكس الصورة المضاءة على شراشف بيضاء (الشاشة)، وسط اهتمام الحضور الذين ينشغلون بعد ذلك في نقل الأحداث والتفاصيل لآخرين لم يسعفهم الوقت أو المال للحضور.
وفي العام 1962، بدأت مرحلة جديدة من تطور السينما في السعودية على يد فؤاد جمجوم صاحب أول دار عرض سعودية بشكلها المعروف في 1969، والذي ساهم بشكل كبير في انتشار سينما الأحواش، حيث كان يزود أصحاب الأحواش بأدوات البث السينمائي، حتى ازدهرت الصناعة في أكثر من حارة وحي.
ومع بداية السبعينيات، بدأ جيل الرواد في الحركة الفنية السعودية مع المخرج سعد الفريح، الذي كان يعمل موظفًا بشركة أرامكو وأصبح أول مخرج سينمائي سعودي، بفيلمه “تأنيب الضمير” في العام 1966، وبدأت دور العرض وسينمات الأندية الرياضية في الانتشار بين السكان المحليين في المدن الرئيسية مثل جدة والطائف والرياض، واستمر الحال حتى حادثة اقتحام جهيمان الحرم سنة 1979 وغيرها من التقلبات الجيوسياسية التي عاشتها المنطقة، مع المزاج الشعبي وغيرها من التفاصيل، لتستمر فقط بعض الأعمال السينمائية التسجيلية، وبدأ تراجع دور العرض حتى أغلقت تمامًا في ثمانينيات القرن الماضي.
“السعودية لم تكن كذلك قبل العام 1979… إننا فقط نعود إلى ما كنا عليه، إلى الإسلام الوسطي المعتدل والمنفتح على العالم”؛ قال ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في أكتوبر 2017، ثم ترجمت الخطوات على الأرض هذا الإصرار بإعادة إحياء الفن السابع في البلاد بإصدار أول ترخيص بافتتاح أولى صالات السينما في العام 2018، حصلت عليه شركة AMC الأمريكية، أكبر مشغل لدور السينما في العالم، والتي أعلنت عن افتتاح 40 دار سينما في 15 مدينة سعودية.
على مدار السنوات الخمس منذ انطلاق رحلة عودتها كصناعة قوية، تمكنت السينما السعودية من تحقيق عدة أرقام مهمة، إذ وصل عدد دور السينما في البلاد 66 دار عرض، بعدد شاشات وصل إلى 618 شاشة عرض، تخدم عدد مقاعد بلغ 63 ألفًا و373 مقعدًا، قدمت ألفًا و971 فيلمًا، بينها 45 فيلمًا سعوديًا، بينما وصل عدد مشغلي دور العرض إلى 6 مشغلين، في 22 مدينة.
وقد بلغ مجموع إيرادات هذه الدور خلال السنوات الخمس 3.7 مليار ريال هي قيمة 61 مليون تذكرة، وفق بيانات الهيئة العامة لتنظيم الإعلام.
ولم يتوقف الأمر إلى حد دور العرض السينمائي، إذ استضافت السعودية خلال السنوات الماضية عددًا من المهرجانات الفنية والسينمائية، التي استهدفت بها إثراء الساحة السينمائية المحلية ودعم المواهب الشابة، فضلًا عن دعم المبادرات الاستراتيجية لتطوير هذا القطاع وتعجيل نموه.
اقرأ أيضًا:
مجلة بريطانية: صناعة السينما في السعودية تجذب أنظار العالم
قصة «نورة» أول فيلم سعودي يشارك في مهرجان كان السينمائي 2024
وقد ساهمت استضافة هذه المهرجانات، وفقًا لتقييمات النقاد، في تنمية جيل جديد من الفنانين السعوديين، من خلال التفاعل مع نجوم الفن العالميين والعرب المشاركين بهذه الفعاليات، ومشاركتهم في أعمال فنية ذات أهمية دولية وإقليمية.
ومن بين هذه المهرجانات، يأتي مهرجان “أفلام السعودية” الذي نظمته الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون بالدمام، ومركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي (إثراء)، بهدف تطوير وإثراء صناعة الأفلام السعودية.
وتُعتبر دورة مهرجان البحر الأحمر السينمائي، التي انطلقت في عام 2021 بمدينة جدة، من بين المهرجانات البارزة، حيث شهدت عرض أكثر من 138 فيلمًا من 67 بلدًا بـ 34 لغة، بالإضافة إلى حضور العديد من المشاهير العالميين والعرب.
وفي دورته الثانية التي أُقيمت في ديسمبر من العام 2022، شارك في مهرجان البحر الأحمر السينمائي 131 فيلمًا من مختلف أنحاء العالم، بالإضافة إلى برامج تدريبية ومسابقات.
ويُعَدّ موسم الرياض واحدًا من أهم المهرجانات الفنية في المملكة، حيث يتضمن مئات الفعاليات الفنية من أفلام سينمائية وعروض مسرحية وحفلات غنائية، بالإضافة إلى جذب نجوم عالميين وفعاليات فنية ضخمة.
وفي استكمال لنجاحات السعودية في هذه الصناعة، استضافت الرياض المهرجان الخليجي السينمائي في دورته الرابعة (اختتم فعالياته أمس)، وقد جمع على مدار خمسة أيام حشدًا كبيرًا من الفنانين الخليجيين الرواد وجيلًا من الشباب، فيما عكس الالتزام المشترك لدعم قطاع الأفلام والسينما في المنطقة، ومد جسور الأفلام القصص والسينما بين دول الخليج ومجتمعاتها.
وقد شهدت الأيام الخمسة للمهرجان عرض 29 فيلمًا مختلفًا لمنتجين خليجيين بارزين، تتوزع عبر عدة فئات، منها الروائية الطويلة، والروائية القصيرة، والوثائقية، إضافة إلى ندوات حوارية وورش تدريبية مختلفة ومتكاملة جمعت بين مُختلف جوانب الإنتاج الإبداعي، والفن السينمائي، تحت أضواء التجربة وأمام منصات المتحدثين.
رغم بداياتها المبكرة، استطاعت صناعة السينما في السعودية أن تكون محط أنظار عالمية، وهو ما ظهر مع عرض بعض الأفلام العالمية تزامنًا مع عرضها الأول في الولايات المتحدة، ومنها فيلم “توب غن: مافريك” الذي عُرض في العام 2022، وحقق إيرادات قدرها 22 مليونًا و586 ألفًا و666 دولارًا أمريكيًا، وفيلم “سبايدرمان: لا عودة للديار”، والذي كان أيضًا من أوائل الأفلام العالمية التي استمتع الجمهور السعودي بعرضها الأول في عام 2021، وحقق إيرادات قدرها 17 مليونًا و413 ألفًا و333 دولار أمريكي.
كذلك حظيت الأفلام السعودية بحضور قوي على منصة المشاهدة العالمية “نتفليكس”، بعدد من الأفلام الشبابية، منها:
وفي سابقة هي الأولى من نوعها لحدث سينمائي كبير خارج أوروبا، شاركت هيئة الأفلام العام الماضي في مهرجان تورنتو السينمائي الدولي في كندا، بجناح سعودي خاص ضم معرضًا سينمائيًا بأبرز الأفلام السعودية التي حققت جوائزَ عالمية ومبيعاتٍ عالية في شباك التذاكر، بالإضافة إلى عرض أفلام “ناقة” للمخرج “مشعل الجاسر”، وفيلم “مندوب الليل” لـ “علي الكلثمي”، وفيلم “هجان” لـ “أبو بكر شوقي”.
وينتظر فيلم “نورة” للمخرج السعودي توفيق الزايدي مشاركة قوية في مهرجان “كان” السينمائي، المقرر إقامته من 14 إلى 25 مايو المقبل، بعد إنجاز تاريخي هو الأول من نوعه باختياره للمشاركة في القائمة الرسمية للدورة السابعة والسبعين، حيث من المقرر أن يُشارك في قسم عروض “نظرة ما” المخصص للأفلام المميزة من مختلف أنحاء العالم، ليكون بذلك أحدث تأكيد على التطور الملحوظ الذي تشهده صناعة السينما السعودية وصولًا إلى العالمية.