قبس المثالية

ليس زعماً أننا ننزع إلى الكمال بكل ماأوتينا من قدرة، ونبذل ماأستطعنا إلى ذلك وجهةً وطريقاً، ونتفاوت في مقدرتنا على بلوغ أقصى ماقُدر لبني البشر، وليس ظناً أن مايتأتى لنا يقاس إلى ذلك الجزء اليسير (الممكن للكثيرين) مما نصبو إليه ولاضير في ذلك فقد خُلق التفاوت كأساس للعدالة الإجتماعية كما يرى أفلاطون وألكسيس كاريل.

لذا فثمة من يخفق في الظفر بمفازة الروح، ويقصر دون بلوغها خُلقه وخلال رحلته المضنية نحو المثالية تتبدل قيمه وتتغير قناعاته وتغدو عزيمته كرماحٍ مهترئة، فهذا شأن ذو علاقة بالإصرار والثبات والإتزان العاطفي وغير ذلك مما يعين على بلوغ هدف ما.

والحديث هنا بطبيعة الحال عن مثالية الخلق الرفيع والإنتماء إلى ماتجغرفه (الأيدياليزم) كما أسمتها مي زيادة في مذكراتها، وليس عن المثالية التي عنيت بها الفلسفة والميتافيزيقا، وماأختلف في تعريفها عراب المثالية أفلاطون عن كانط وهيغل.

تلك المثالية التي تمثل في مجملها معايير يقاس إليها كل فعل وهي أقرب للمبادئ الإنسانية التي تقاس إليها القيم (الشخصية) فتبدو على المستوى الإنساني كوثيقة تعبر أنحاء العالم وتقبل الإضافة، لأن إختلاف الثقافات قد ينحى ببعضها قسراً إلى حيث تتباين فتبدو المعايير متمايزة وبالتالي كل مايقاس إليها، ولكن ماتخلص إليه رفيع يسمق بذويها، ولذلك كان إتساعها لزاماً.

غير أن كل دعي جعل مما يظن قالباً يضع فيه مايجب أن يكون عليه الأخرين فعد مالم يتسع له هراء يجب أن لايُحتمل وألقي به خارج إطر المثالية غير آسف على كونه يمثل قيمة لبعضهم في أسوء الأحوال.

كما صنع بمبدأ العدل وفعل بالصواب حين وضعهما في ذات القالب وظن أنه سيتسع عنوة لأراء الأخرين بل وجعل حكمة على حادثه ما ثابت وماسواه متغير يقاس إليه فذهب به غروره عن المثالية والصواب كل مذهب وهو يظن أنه يمثلهما، وقد ألحق بها ضرراً يصعب إصلاحه، ولا أعلم كيف تجاوز قيمة جمعية تعتبر إلغاء الأخر مقوضاً للمثالية.

ومن هنا يبدو جلياً أن أساس المثالية هو التخلق بكل ماهو سامٍ ورفيع وأن مزاولتها فن شاق وقلة هم من يتقنونه ، وطريق وعرة قل من يعبرها لذا فلاعجب أن نرى ومن يخفق في بلوغها ولا أن نشاهد من يسقط فتتهاوى قيمه بعد أن كان رمزاً للمثالية في أعيننا، فلا يزعجننا من السقوط سوى دويه، ولنبقي على المثالية قبساً يضيء لنا عتمة الطريق، فإن إستطعنا أن نكون بعضاً منه فقد بلغنا غاية قلما تُنال.