الاقتصاد القياسي بين المفهوم والأهمية

يعدّ علم الاقتصاد القياسي علماً حديثاً نسبياً إذا ما قورن بالعلوم الاقتصادية الأخرى، فعلى الرغم من المحاولات التي ظهرت في القرن التاسع عشر والتي كانت ذات طابع اقتصادي قياسي، كعمل الإحصائي الألماني أرنست إنغل (1821-1896)E.Engel الذي وضع قوانينه الخاصة بالدخل والاستهلاك في ضوء بيانات ميزانية الأسرة، واستعمل مصطلح الاقتصاد القياسي أول مرة عام 1926 من قبل الاقتصادي النروجي فريش Frisch.

وفي عام 1919 نشر الاقتصادي الأمريكي بيرسون W.M.Pearson طريقته الخاصة بتحليل الدورات الاقتصادية التي طبقت في تحليل هذه الدورات في عدد من البلدان الرأسمالية، وتعد محاولات تقدير دوال منحنيات العرض والطلب للمنتجات الزراعية في الولايات المتحدة الأمريكية في مطلع الثلاثينات من القرن العشرين محاولات أولى أيضاً في مجال تطبيق مبادئ الاقتصاد القياسي.

وأسس بعض واضعي الفكر الاقتصادي الأوائل من أمثال مور H.More، وشولتز H.Schultz، وفريش وستون R.Stone الجمعية الدولية للاقتصاد القياسي International Econometrics Association في عام 1930م، ثم توسع تطبيق مبادئ الاقتصاد القياسي بعد الحرب العالمية الثانية، وأخذت أنشطة هذا العلم تشمل تقديرات لمعالم أو لثوابت نماذج اقتصادية مؤلفة من عدة معادلات، ومنذ ذلك التاريخ والاقتصاد القياسي يستخدم أداة فعالة في حل المعضلات الاقتصادية وفي عمليات التخطيط الاقتصادي، وبدأ تطبيق مبادئ هذا العلم بالانتشار حديثاً في بلدان العالم الثالث، وساعد على انتشار طرائق الاقتصاد القياسي عاملان اثنان هما:

1ـ توافر الإحصاءات الاقتصادية بكميات أكبر وبدقة أفضل،وهي تؤلف المادة الأولية للبحث العلمي في الاقتصاد القياسي.

2ـ التطور الكبير والسريع في مجال الحاسبات الإلكترونية الذي مكن من التوسع في النماذج الاقتصادية لتشمل عدداً كبيراً من المتغيرات بعد أن كان ذلك مقتصراً على التحليل النظري، فقد أصبح بالإمكان اليوم تقدير ثوابت نموذج مؤلف من عدة مئات من المعادلات واختبار صلاحية النماذج الاقتصادية النظرية ومعرفة مدى ملاءمتها للواقع المعقد.

ويعتبر الاقتصاد القياسي أحد أحدث فروع علم الاقتصاد ويعنى بتحليل الظواهر الاقتصادية الواقعية تحليلاً كمياً، وذلك باستخدام أساليب الاستقراء الإحصائي المناسبة،أي إنه علم استعمال طرائق الاستقراء والاستدلال الإحصائي لكشف القوانين الاقتصادية الموضوعية وتحديد فعلها تحديداً كمياً.

ويعتمد الاقتصاد القياسي في قياس العلاقات الاقتصادية وتحليلها على دمج النظرية الاقتصادية والرياضيات والأساليب الإحصائية في نموذج متكامل، وذلك بهدف تقويم معالم ذلك النموذج ثم اختبار الفروض حول ظاهرة اقتصادية معينة، وأخيراً التنبؤ بقيم تلك الظاهرة.

من الواضح أن علم الاقتصاد القياسي يعتمد على ثلاثة علوم هي:

1ـ علم الاقتصاد، وهذا أمر طبيعي، إذ إن الاقتصاد القياسي هو أحد فروع هذا العلم، والنظرية الاقتصادية تشير عموماً إلى وجود علاقات معينة بين متغيرات اقتصادية كالعلاقة بين الكمية المطلوبة من سلعة معينة وسعرها وأسعار السلع البديلة مثلاً، وتحتاج عملية قياس تلك العلاقات إلى اختيار نماذج قياسية لتمثيلها.

2ـ الرياضيات بما توفره من نماذج رياضية يختار الاقتصاد القياسي ما يناسب منها وفق أسس معينة للوصول إلى نموذج لتمثيل العلاقات بين المتغيرات الاقتصادية المدروسة،من الطبيعي أن يكون بعض تلك النماذج أقل جودة في التعبير عن الواقع المعقد من بعضها الآخر.

3ـ الإحصاء بما يوفره من أدوات أساسية في القياس كالتي تتعلق بطرائق الاستدلال الإحصائي مثلاً.

وتأتي أهمية الاقتصاد القياسي من نتائج التطبيقات المختلفة وإمكانية توظيفها للتحكم في الظواهر المدروسة:

1- التقدير الكمي لتأثير العوامل المؤثرة على الظواهر الاقتصادية المدروسة من حيث حجم التأثير واتجاهه، وهذا يجعل عملية التحكم واضحة وسهلة، وكذلك العمليات الاقتصادية من خلال التحكم بالعوامل المؤثرة فيها.

2- عند تقدير دوال الإنتاج على المستوى الجزئي، يمكن تقدير تأخير كل عامل من العوامل المؤثرة على الإنتاج وتحديد المقادير المثلى من كل عامل التي يجب إضافتها للحصول على أعلى إنتاجية وأقل تكلفة.

3- القرارات المتخذة استناداً إلى نتائج الدراسات القياسية تكون رشيدة لأنها تستند إلى نتائج وعلاقات دقيقة ومعنوية وتقديرات منطقية ومختبرة.

4- يمكن من خلال النماذج القياسية التنبؤ بتغيرات الظاهرة المدروسة بتغير العوامل المؤثرة عليها وبتغير الزمن.

5- سهولة قراءة الظواهر حيث يعتبر النموذج اختصاراً واضحاً ورقمياً للعلاقة بين المتغيرات.
6- يعمل الاقتصاد القياسي على استبعاد أخطاء التقدير الشخصي للباحثين، وكذلك يقيس العلاقة الحقيقية، ومدى الارتباط الفعلي، وليست العلاقة الظاهرية بين المتغيرات.

من خلال تقصي واقع الاقتصاد القياسي نجد أنه لا يعطى الأهمية اللازمة على مستوى الدراسة الجامعية والدراسات العليا في الكليات المعنية، كما نجد أن الدراسات القياسية وتطبيقاتها قليلة وأن الإلمام بهذا الجانب من البحث محدود ويقتصر على بعض المهتمين، ولهذا الكثير من الآثار السلبية بسبب محدودية هذا الجانب البحثي المهم وعدم الاستفادة من التطبيقات العملية لنتائج دراساته وأبحاثه.

مما سبق نجد أن الاقتصاد القياسي يجب أن يولى اهتماماً كبيراً في المرحلة الجامعية الأولى في الكليات ذات الصلة بهذا الموضوع وكذلك في مراحل الدراسات العليا المختلفة.

وأرى أيضاً ضرورة تبني هذا النوع من الدراسات في المؤسسات والهيئات الاقتصادية والبحثية كافة وذلك عن طريق تأهيل وتدريب الأشخاص المناسبين على القيام بهذا النوع من الدراسات وعلى استخدام البرامج الحاسوبية المتعلقة بالتحليل الاقتصادي والإحصائي.