ذاك أبي!!

حالة من الإرباك أعيش لحظتها صَعُب علي فيها التمالك .. وقفت مذهولا وجزعا لا أقوى على الكلام .. رحل أبي.. ورحلت معه حكاية الصبر والحكمة ..وانتهت أعظم قصة جميلة في حياتي كان بطلها والدي ..عاش حياته وحيدا حين فقد والديه وهو طفلا ثم فقد شقيقه وهو فتى في الخامسة عشرة من عمره .. تلاطمته أمواج الحياة لكن شموخه زرع في دواخله الصبر وطيبة النفس..علمه الُيتم أن يكون قويا رغم ضعفه وإضطهاد البعض من اقربائه له حين سخروه لرعي إبلهم فوق لهيب الأرض وتحت سمائها.. إرتشف الظمأ وإستطعم الجوع .. لكن الدنيا علمته أن أحد لا يستطيع وقف أحلامه وان كانت صعبة المنال .. فهرب منها إليها متمسكا بأحلامه وهمه الوحيد أن يقرأ ويكتب ليعرف طريق حياته رغم المنع والضرب الذي تلقاه لثنيه عن ذلك كي يبقى راعيا للإبل تارة وللغنم تارة أخرى .. تشابكت الفانية عليه وأثقلت كاهله حين أصابته بطعناتها كثيرا .. مات أبي ..وماتت معه كل النصائح والحِكم لكن قصتة مع الكفاح أعظم جامعة تخرجت فيها ..شاهدت دموعه تنهمر في مواقف عدة وأنا طفل لم أدرك أنها من أجلنا لإن الطعام أوشك على النفاذ!. وعجز أن يأتي بثمنه.. أو علبة حليب لتشبعنا ونحن جياع .تحمل الكثير كي يرى الابتسامة تعلو وجوهنا .. ذاك أبي .. حين تلقيت العزاء فيه جاءني هاتفا يسأل ..أنت عبدالله .. أنا زميل ابوك في معركة الكرامة بالأردن وزميله في حرب الجولان في سوريا وقبلها زميله في حرب الوديعه ..كان صوته ثقيلا وبالكاد يسمع صوتي ..جاء هاتف العم الشريف عبدالله آل خديش بلسماً على صدري حين وصف أبي خلال رحلة زمالته له بالشجاع الذي حصل على نوط الملك عبدالعزيز وبقوي الشكيمة حين واجه العدو الصهيوني ولم ينسحب في معركة 73 من فوق جبل الشيخ بالجولان وقف يرمي القذائف بإستبسال ويداه تسحب حبل زناد المدفعيه حتى أصابته شظايا قنبلة قتلت من معه وبقي هو ليسعفه زملاؤه.. رحمك الله ياسيدي ووالدي ومعلمي في الحياة فقد رحلت عنا مبتسما..قانعا بما حققت من إنجازات في حياتك العسكرية وحتى بعد تقاعدك وقد امضيت أربعين عاما تعمل بصمت ..كنت تضع بدلتك العسكرية في خزانة ملابسك وأنت في الثمانين من عمرك تردد على مسامعنا ..هاهي بدلتي العسكرية جاهزة وانا متحضر للاستدعاء تلبية لنداء الدين و الوطن وولي الأمر .. زرعت في دواخلنا الولاء والحب لقيادتنا أولا واخيرا..وتركت فينا إرثا عظيما مفاده التسامح والحب وعدم إيذاء الناس ذاك أبي ..وكفى ..