الببليوثيرابيا

كأن ينسلخ من رتابة المكان الجامد من حوله ويتخلص مما علق في ذاكرته من حكاياتٍ وقصصٍ ما فتأت تؤرقه ليرتدي حلةً جديدةً كالتي يرتدي أرستقراطيٌ حاذق فيسير بها في أروقة القصور الفارهة وعبر الممرات الرخامية حيث تتردد مقطوعة لحن الخلود لبيتهوفن.

هكذا يبدو أثر الببليوثيرابيا أو ( العلاج بالقراءة ) على من يعانون إعتلالاً نفسياً ولهذا تهدف فلسفته أيضاً والتي تقوم في مجملها على مبدأ (من يمرض بكلمة يُشفى بكلمة) إضافةً إلى خفض اضطرابه ونزع القلق الذي يلازمه.

فبعد قراءة رواية ما أو كتاب ما لا يعود أحدنا كما كان أبداً، فعدا أنه يستعيد رعشة البهجة الأولى التي ترافق تشكل حلم ما في مخيلته وهذا أمر بالغ المتعة فهو أيضاً سيكون قد اقترب من الحصول على حلٍ لمعضلة ظلت تؤرقه طويلاً وسيصبح أكثر ثقةً وأبعد تمكيناً إجتماعياً على الأقل، وهو الأمر الذي نجحت في إثباته الكثير من الدراسات والأبحاث والتجارب، وقد ذهبت جيمي سمايلي في كتابها ( ثلاثة عشر طريقة للنظر إلى رواية) لأبعد من ذلك فذكرت أن أي شخص سيكون أفضل حالاً بمجرد النظر إلى كتاب، مجرد النظر فقط فكيف بقراءته.

إحدى هذه الدراسات أُجريت في بريطانيا وأثبتت أن قراءة النشء لروايات هاري بوتر الفنتازية للكاتبة الرائعة جوان رولينغ جعلت منهم أكثر استعداداً للتعاون مع الأخر وأكثر إيجابيةً إزاء الأقليات المهمشة كاللاجئين.

وتعود نشأة هذا الأسلوب العلاجي إلى الحضارة الإغريقية والعصر اليوناني القديم مهد الفلسفة فقد ذكر أنهم كانوا يضعون على أبواب المكتبات لافتات تشير إلى أن مافي داخلها هو شفاء الروح وكذلك كان يفعل الفراعنة المصريون فقد كانت مقولة المكتبة طب النفوس تعتلي أبواب مكتباتهم.

وهو الإرشاد الروحي ذاته الذي بلغ ذروته في الثقافة الإسلامية فبدأه جبريل عليه السلام في قصة نزول الوحي وامتد لغير موضع في القرآن الكريم دلت جميعها على أنه شفاء لقارئه كقوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:٨٢].

ورغم الشح المعرفي والعلمي الذي يعانيه العالم العربي تجاه البيبلوثيرابيا فقد أعتمد من قبل الكثير من دول العالم كأحد الطرائق العلاجية ولاقى رواجاً لافتاً فذهب علماء النفس والأخصائيين والمعالجين النفسيين لممارسته على نحو واسع بل حتى الأدباء فهاهو آلان دو بوتون مؤلف كتابي عزاءات الفلسفة وقلق السعي نحو المكانة وهما الكتابان اللذان لقيا نجاحاً ورواجا منقطع النظير مؤخراً سيما في تلخيص الفلسفة منذ القدم وسبر أغوار النفس البشرية وتوقها لتبوء مكانة متقدمة على شتى الصعد، والأخير يتحدث عن أمر ذَا علاقة بالببلوثيرابيا.

ومؤسس ومدير مدرسة الحياة في لندن وفروعها المنتشرة حول العالم وأعني آلان بوتون يستقطب أربعة من أفضل المعالجين بالقراءة على مستوى العالم للعمل في مدرسته.

وقد بدأت العيادات القراءية إنتشاراً لافتاً يدل على نجاعة هذا المسلك العلاجي ولعل من يزاول القراءة أكثر من يستطيع استقراء ذلك فقد لاحظ مراراً بلا شك أنه حين يلج كتاباً ما مثقلاً بهموم واقع أليم أو غير مرضي يغادره وقد تخفف من ذلك العبء وهو الأثر الذي لمسه العلماء في الببليوثيرابيا فعمدوا إلى تسخيره في علاج الأنفس.