بقلم: فيصل الحمد
خلال المؤتمر الصحفي الأخير مع رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، أثار الرئيس الأمريكي ترامب جدلاً واسعًا بإعلانه عن خطة غير مسبوقة، او كما اسماها “خطة خارج الصندوق”، يقترح فيها سيطرة الولايات المتحدة على قطاع غزة بعد انتهاء النزاع الحالي، مع إعادة توطين سكان القطاع في دول مجاورة، مثل مصر والأردن، وتحويل غزة إلى منطقة مزدهرة، وصفها بأنها “ريفييرا الشرق الأوسط”. كما تضمنت الخطة إزالة الأنقاض والذخائر غير المنفجرة، وبناء مشاريع تنموية توفر فرص عمل وإسكان.
هذه التصريحات قوبلت برفض دولي واسع، حيث اعتُبرت انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي وحقوق الإنسان، لا سيما أنها تنطوي على عمليات ترحيل قسري للفلسطينيين، الأمر الذي قد يصنّف كجريمة حرب أو حتى جريمة ضد الإنسانية، وفقًا لمنظمة العفو الدولية. بعيدًا عن المضمون التفصيلي للخطة، يثير موقف ترامب تساؤلات جوهرية حول نهجه السياسي في التعامل مع القضايا الدولية، والذي يبدو أنه قائم على استراتيجيات غير مألوفة، أقرب إلى العروض الدعائية منها إلى السياسات الواقعية.
تصريحات ترامب حول غزة لا يمكن فصلها عن نهجه السابق تجاه قضايا أخرى، مثل حديثه عن شراء غرينلاند من الدنمارك، أو تهديده العسكري ضد بنما من اجل قناة بنما، أو حتى تعليقه المهين لكندا في سياق اتفاقيات التجارة والولاية الحادية والخمسون. يبدو أن ترامب يعتمد أسلوبًا قائمًا على طرح أفكار غير تقليدية، بغضّ النظر عن مدى واقعيتها أو شرعيتها، بهدف إثارة الجدل وتحقيق مكاسب سياسية وإعلامية موقته. هذه النزعة تعكس رؤية تختزل العلاقات الدولية في منطق الصفقات التجارية، حيث تصبح الأراضي والشعوب عناصر يمكن التفاوض حولها وفقًا لمصالحه أو رغبته في إظهار القوة.
وسط ردود الفعل الدولية الرافضة لهذه التصريحات، جاء الموقف السعودي ليؤكد على ثبات واستمرارية التزام المملكة العربية السعودية بالقضية الفلسطينية وفق رؤية واضحة لا تحتمل التأويل. فقد أصدرت وزارة الخارجية السعودية بيانًا شددت فيه على أن موقف المملكة من قيام الدولة الفلسطينية هو موقف راسخ وثابت لا يتزعزع. كما أكد سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، الأمير محمد بن سلمان – حفظه الله -، هذا الموقف بشكل واضح وصريح، مما يقطع الطريق على أي محاولات لفرض حلول غير عادلة تتجاهل الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. يعكس هذا البيان التزام السعودية بالدفاع عن حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، ورفضها لأي مشاريع تلتف على هذا الحق أو تحاول فرض حلول غير عادلة عبر سياسات القوة أو التهجير القسري.
على المستوى السياسي، يطرح هذا التوجه إشكاليات خطيرة، إذ يعكس تصورًا تبسيطيًا للنزاعات المعقدة، ويختزل قضايا السيادة والحقوق التاريخية في معادلات اقتصادية أو تحركات تكتيكية. طرح ترامب لخطة السيطرة على غزة قد يكون جزءًا من الوعود الانتخابية لعام 2024، حيث سعى إلى استمالة اللوبي المؤيد لإسرائيل والمسيحيين الإنجيليين، لكنه في الوقت ذاته يفتح الباب أمام مزيد من التوترات، سواء مع الدول العربية أو مع المجتمع الدولي.
من الناحية الاستراتيجية، فإن مجرد الحديث عن إدارة أمريكية مباشرة لغزة يحمل في طياته تعقيدات عسكرية وسياسية هائلة. أي وجود أمريكي في القطاع قد يؤدي إلى تصعيد أمني طويل الأمد. كما أن هذا السيناريو يضع واشنطن في قلب الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني بطريقة غير مسبوقة، قد تعزز نفوذها في المنطقة لكنها أيضًا تعرضها لخطر الغرق في مستنقع سياسي وأمني جديد.
على الصعيد القانوني والإنساني، تطرح الخطة إشكاليات جوهرية تتعلق بانتهاك القانون الدولي، حيث إن ترحيل السكان القسري يُعد جريمة وفق اتفاقيات جنيف. إضافة إلى ذلك، فإن فكرة إعادة توطين الفلسطينيين خارج أرضهم تثير مخاوف من مشروع تطهير عرقي، ما قد يدفع المجتمع الدولي إلى اتخاذ مواقف أكثر حدة تجاه الولايات المتحدة وإسرائيل. علاوة على ذلك، فإن تحميل واشنطن مسؤولية إعادة إعمار القطاع سيكون تحديًا اقتصاديًا وسياسيًا ضخمًا، لا تبدو إدارة ترامب قادرة أو راغبة في تحمله.
على المستوى الإقليمي، تلقى المقترح رفضًا قاطعًا من الدول العربية، خاصة مصر والأردن، اللتين تدركان أن أي محاولة لإعادة توطين الفلسطينيين قد تهدد استقرارهما الداخلي. كما أن المجتمع الدولي، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، يعارض أي حلول أحادية تُفرض بالقوة، لما قد يترتب عليها من تداعيات خطيرة على الأمن والسلم الدوليين. في المقابل، قد تستغل قوى مثل إيران وحلفاؤها، هذا الطرح لتعزيز خطاب المقاومة وتصعيد المواجهة مع الولايات المتحدة وإسرائيل، مما قد يؤدي إلى مزيد من التوترات في المنطقة.
النهج الذي يتبناه ترامب في السياسة الخارجية لم يعد مجرد أسلوب استعراضي، بل بات يشكّل نمطًا متكررًا من الطرح الفجّ والمشاريع غير المدروسة التي تفتقر إلى أي أساس دبلوماسي أو قانوني. سواء كان الأمر متعلقًا بغزة، أو غرينلاند، أو حتى تهديده العسكري لبنما، يبدو أن الرئيس الأمريكي يتعامل مع العلاقات الدولية كما لو كانت سوقًا تجاريًا، حيث يمكن شراء الأراضي أو تهديد الشعوب أو إعادة تشكيل الدول بقرارات فوقية. هذه التكتيكات تضعف مصداقية الولايات المتحدة وتؤدي إلى مزيد من العزلة والتوترات على الساحة الدولية.
ختاماً، سواء كانت تصريحات ترامب مجرد مناورة أم تمهيدًا لطرح جاد، فإنها تكشف عن اتجاه متزايد نحو التطرف في القضايا الدولية. إن وجد ترامب طريقه إلى تنفيذ مشروعك في قطاع غزة، سيواجه عواقب وخيمة على المستويات السياسية والقانونية والاستراتيجية، ليس فقط في الشرق الأوسط. إضافة الى ذلك مثل هذه التصرفات قد تدفع حلفاء وشركاء الولايات المتحدة إلى الاتجاة شرقاً، وستتغير صورة الولايات المتحدة في العالم بأسره.