فيصل الحمد خبير استراتيجي وعسكري
شهد الاقتصاد السوري خلال العقد الماضي تدهورًا غير مسبوق، متأثرًا بعوامل متعددة أبرزها إغلاق المصانع، وهجرة اليد العاملة، وارتفاع تكاليف الإنتاج، والعقوبات الدولية، وحظر التصدير والاستيراد. كل ذلك أدى إلى وضع اقتصادي هش ترافق مع تراجع قيمة الليرة السورية وعدم استقرارها، مما دفع إلى استخدام عملات أجنبية مثل الدولار والليرة التركية في التعاملات المحلية وخصوصاً في الشمال والشمال الشرقي السوري. هذه الظروف الصعبة، مع انعدام اليقين بشأن المستقبل السياسي، جعلت من الصعب رسم ملامح واضحة لمستقبل الاقتصاد السوري.
رغم ذلك، تقف سوريا اليوم أمام فرصة تاريخية لإعادة البناء، إلا أن هذه العملية تمثل تحدياً هائلاً. الدمار الذي طال البنية التحتية والممتلكات العامة والخاصة يحتاج إلى جهود ضخمة وموارد هائلة، تتجاوز بكثير قدرات البلاد الذاتية. تشير التقديرات إلى أن التكلفة الإجمالية لإعادة الإعمار قد تتجاوز (200) مليار دولار، وهو رقم يفوق بكثير الإمكانات الاقتصادية السورية في الوقت الراهن، ما يجعل الحاجة إلى الدعم الدولي والعربي أمراً حتمياً.
لكن الدعم الدولي لإعادة الإعمار لن يكون دون ثمن. إذ ترتبط المساعدات بشروط ومصالح الدول المانحة، مما يعقّد المشهد السياسي ويؤدي إلى تباين الأولويات. على سبيل المثال، تسعى الدول الأوروبية إلى ضمان حقوق الأقليات ودعمها، وهو ما يتعارض مع مواقف دول إقليمية مثل تركيا التي تعارض الاعتراف بحقوق الأكراد. أما الولايات المتحدة، فتربط رفع العقوبات وإعادة النظر في سياساتها تجاه سوريا بمدى التزام القيادة الجديدة بالتواصل مع جميع الأطراف واحترام حقوق الإنسان.
الاتحاد الأوروبي بدوره يتبنى موقفاً مماثلاً للموقف الأمريكي. وقد أكدت مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي أن رفع العقوبات مرتبط بتشكيل حكومة موحدة تحترم حقوق المرأة والأقليات، وتنبذ التطرف الديني.
على الجانب الآخر، تسعى تركيا إلى لعب دور محوري في إعادة الإعمار، خاصة في مشاريع البنية التحتية مثل إعادة تأهيل مطار دمشق، ترميم السكك الحديدية، وإصلاح الطرق الرئيسية، وإعادة بناء وزارة الدفاع. ومع ذلك، فإن الاقتصاد التركي ليس في وضع يسمح له بتحمل هذه الأعباء منفردًا، ما يدفع أنقرة إلى البحث عن شراكات دولية وإقليمية لتحقيق أهدافها.
الدول العربية، وخاصة الخليجية، بدأت تظهر توجهات إيجابية نحو استئناف العلاقات مع سوريا، وهو ما عكسته زيارة الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي إلى دمشق والدعوة السعودية لوزير الخارجية السوري لزيارة الرياض. هذا الانفتاح العربي قد يكون مؤشرًا على دور خليجي محتمل في دعم جهود إعادة الإعمار، بما يعزز من استقرار المنطقة ويساعد على إعادة بناء سوريا.
ورغم هذه التحركات، فإن تحديات كبيرة ما زالت قائمة. إعادة الإعمار تتطلب رؤية متوازنة تأخذ في الحسبان تقاطع المصالح الدولية والإقليمية، وتضع مستقبل سوريا على مسار مستدام. هل ستتمكن القيادة السورية من تحقيق هذا التوازن؟ أم أن تضارب المصالح سيعرقل العملية ويؤدي إلى مزيد من التأخير؟
بعد عقد من الأزمات والصراعات، تجد سوريا نفسها أمام تحدٍ غير مسبوق يتطلب جهودًا جبارة لإعادة البناء على جميع المستويات. ومع الحاجة الملحة إلى مشروع بحجم “مشروع مارشال”، الذي ساعد في إعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، يتضح أن النجاح في هذه المهمة مرهون برؤية قيادية واعية قادرة على الموازنة بين المصالح الدولية والإقليمية، دون المساس بسيادة الدولة. فهل ستكون سوريا قادرة على توجيه هذا الدعم الدولي والإقليمي لبناء مستقبل مستدام يعيد لها استقرارها ويحقق تطلعات شعبها؟ الأمل موجود، لكن التحديات تظل كبيرة وتستدعي استراتيجيات متوازنة وشجاعة.